لا يلزم الجواب عن أعيانها ، وهم منكرون لأصل الرسالة ، وليس فيها مجادلة ومحاجة بانفرادها ، بل لكل مقام مقال. فصاحب هذا الاعتراض ، المنكر لرسالة الرسول ، إذا زعم أنه يجادل ليسترشد ، يقال له : الكلام معك في إثبات الرسالة وعدمها ، وإلّا ، فالاقتصار على هذه ، دليل على أن مقصوده ، العنت والتعجيز ، ولهذا أمر الله رسوله ، أن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويمضي على ذلك ، سواء اعترض المعترضون أم لا ، وأنه لا ينبغي أن يثنيك ، عن الدعوة شيء لأنك (لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي : معتدل موصل للمقصود ، متضمن علم الحقّ والعمل به ، فأنت على ثقة من أمرك ، ويقين من دينك ، فيوجب ذلك لك الصلابة والمضي لما أمرك به ربك ، ولست على أمر مشكوك فيه ، أو حديث مفترى ، فتقف مع الناس ، ومع أهوائهم ، وآرائهم ، ويوقفك اعتراضهم. ونظير هذا قوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (٧٩). مع أن في قوله : (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) إرشادا لأجوبة المعترضين ، على جزئيات الشرع ، بالعقل الصحيح ، فإن الهدى ، وصف لكل ما جاء به الرسول. والهدى : ما تحصل به الهداية ، في مسائل الأصول والفروع ، وهي المسائل التي يعرف حسنها ، وعدلها ، وحكمتها ، بالعقل ، والفطرة السليمة ، وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات.
[٦٨ ـ ٦٩] ولهذه أمره الله بالعدول عن جدالهم في هذه الحالة فقال : (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) (٦٨) أي : هو عالم بمقاصدكم ، ونياتكم ، فمجازيكم عليها وهو (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). فمن وافق الصراط المستقيم ، فهو من أهل النعيم ، ومن زاغ عنه ، فهو من أهل الجحيم ، ومن تمام حكمه ، أن يكون حكما بعلم ، فلذلك ذكر إحاطة علمه ، وإحاطة كتابه فقال :
[٧٠] (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لا يخفى عليه منها خافية ، من ظواهر الأمور ، وبواطنها ، خفيها ، وجليها ، متقدمها ، ومتأخرها ، ذلك العلم المحيط بما في السماء والأرض قد أثبته الله في كتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، حين خلق الله القلم قال له : «اكتب» قال : ما أكتب؟ قال : «اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة». (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وإن كان تصوره عندكم لا يحاط به ، فالله تعالى يسير عليه أن يحيط علما بجميع الأشياء ، وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع.
[٧١ ـ ٧٢] يذكر تعالى حالة المشركين به ، العادلين به غيره ، وأن حالهم أقبح الحالات ، وأنه لا مستند لهم على ما فعلوه ، فليس لهم به علم ، وإنما هو تقليد ، تلقوه عن آبائهم الضالين ، وقد يكون الإنسان لا علم عنده بما فعله ، وهو ـ في نفس الأمر ـ له حجة ما علمها. فأخبر هنا ، أن الله لم ينزل في ذلك سلطانا ، أي : حجة تدل عليه ، ويجوزه ، بل قد أنزل البراهين القاطعة ، على فساده ، وبطلانه ، ثم توعد الظالمين منهم المعاندين للحق فقال : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم من عذاب الله ، إذا نزل بهم وحل. وهل لهؤلاء الذين لا علم لهم بما هم عليه ، قصد في اتباع الآيات والهدى إذا جاءهم؟ أم هم راضون بما هم عليه من الباطل؟ ذكر ذلك بقوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا