بَيِّناتٍ) التي هي آيات الله الجليلة المستلزمة لبيان الحقّ من الباطل ، لم يلتفتوا إليها ، ولم يرفعوا بها رأسا. بل (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) من بغضها وكراهتها ، ترى وجوههم معبّسة ، وأبشارهم مكفهرة. (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي : يكادون يوقعون بهم القتل والضرب البليغ ، من شدة بغضهم ، وبغض الحقّ وعداوته ، فهذه الحالة من الكفار بئست الحالة ، وشرها بئس الشر ، ولكن ثمّ ما هو شر منها ، حالتهم التي يؤولون إليها ، فلهذا قال : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فهذه شرها طويل عريض ، ومكروهها وآلامها ، تزداد على الدوام.
[٧٣] هذا مثل ضربه الله ، لقبح عبادة الأوثان ، وبيان نقصان عقول من عبدها ، وضعف الجميع فقال :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ) هذا خطاب للمؤمنين والكفار ، المؤمنون يزدادون علما وبصيرة ، والكافرون ، تقوم عليهم الحجة. (ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي : ألقوا إليه أسماعكم وافهموا ما احتوى عليه ، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية ، وأسماعا معرضة ، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع ، وهو هذا. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) شمل ما يدعى من دون الله. (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها ، فليس في قدرتهم ، خلق هذا المخلوق الضعيف ، فما فوقه من باب أولى. (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) بل أبلغ من ذلك (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) وهذا غاية ما يصير من العجز. (ضَعُفَ الطَّالِبُ) الذي هو المعبود من دون الله (وَالْمَطْلُوبُ) الذي هو الذباب ، فكل منهما ضعيف. وأضعف منهما ، من يتعلقون بهذا الضعيف ، وينزلونه منزلة رب العالمين.
[٧٤] فهؤلاء (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) حيث سووا الفقير العاجز من جميع الوجوه ، بالغني القوي من جميع الوجوه. سووا من لا يملك لنفسه ، ولا لغيره نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، بمن هو النافع الضار ، المعطي المانع ، مالك الملك ، والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي : كامل القوة ، كامل العزة ، ومن كمال قوته وعزته ، أن نواصي الخلق بيديه ، وأنه لا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ، إلّا بإرادته ومشيئته ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن. ومن كمال قوته ، أن يمسك السموات والأرض أن تزولا ، ومن كمال قوته ، أنه يبعث الخلق كلهم ، أولهم وآخرهم ، بصيحة واحدة. ومن كمال قوته ، أنه أهلك الجبابرة ، والأمم العاتية ، بشيء يسير ، وسوط من عذابه.
[٧٥ ـ ٧٦] لما بين تعالى كماله وضعف الأصنام ، وأنه المعبود حقا ، بين حالة الرسل ، وتميزهم عن الخلق ، بما تميزوا به ، من الفضائل فقال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) أي : يختار ويجتبي من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، يكونون أزكى ذلك النوع ، وأجمعه لصفات المجد ، وأحقه بالاصطفاء. فالرسل ، لا يكونون إلّا صفوة الخلق على الإطلاق ، والذي اختارهم ، واجتباهم ، ليس جاهلا بحقائق الأشياء ، أو يعلم شيئا دون شيء وأن المصطفي لهم ، السميع ، البصير ، الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء. فاختياره إياهم ، عن علم منه ، أنهم أهل لذلك ، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ). (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي : هو يرسل الرسل ، يدعون الناس إلى الله ، فمنهم المجيب ، ومنهم الراد لدعوتهم ، ومنهم العامل ، ومنهم الناكل فهذه وظيفة الرسل ، وأما الجزاء على تلك الأعمال ، فمصيرها إلى الله ، فلا تعدم منه ، فضلا وعدلا.
[٧٧] يأمر تعالى ، عباده المؤمنين بالصلاة ، وخص منها الركوع والسجود ، لفضلهما وركنيتهما ، وعبادته التي هي قرة العيون ، وسلوة القلب المحزون ، وأن ربوبيته وإحسانه على العباد ، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة ، ويأمرهم بفعل الخير عموما. وعلق تعالى ، الفلاح على هذه الأمور فقال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). أي : تفوزون بالمطلوب المرغوب ، وتنجون من المكروه المرهوب ، فلا طريق للفلاح ، سوى الإخلاص في عبادة الخالق ، والسعي في نفع عبيده ، فمن وفق لذلك ، فله القدح المعلّى ، من السعادة ، والنجاح والفلاح.