الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) وقال الله عنهم : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١) (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ). فلما كانوا جامعين لهذه الرذائل ، لا جرم حقت عليهم العقوبة ، ولما وقعوا فيها ، لم يكن لهم ناصر ينصرهم ، ولا مغيث ينقذهم ، ويوبخون عند ذلك بهذه الأعمال الساقطة (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) ، أي : أفلا يتفكرون في القرآن ، ويتأملونه ويتدبرونه ، أي : فإنهم لو تدبروه ، لأوجب لهم الإيمان ، ولمنعهم من الكفر ، ولكن المصيبة ، التي أصابتهم ، بسبب إعراضهم عنه ، ودل هذا ، على أن تدبر القرآن ، يدعو إلى كل خير ، ويعصم من كل شر ، والذي منعهم ، من تدبره أن على قلوبهم أقفالها. (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي : أو منعهم من الإيمان ، أنه جاءهم رسول ، وكتاب ، ما جاء آباءهم الأولين ، فرضوا بسلوك طريق آبائهم الضالين ، وعارضوا كل ما خالف ذلك ، ولهذا قالوا ، هم ومن أشبههم من الكفار ، ما أخبر الله عنهم : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٢٣) ، فأجابهم بقوله : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) ، فهل تتبعون إن كان قصدكم الحق. فأجابوا بحقيقة أمرهم (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).
[٦٩] وقوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٦٩) أي : أو منعهم من اتباع الحق ، أن رسولهم محمدا صلىاللهعليهوسلم ، غير معروف عندهم ، فهم منكرون له؟ يقولون : لا نعرفه ، ولا نعرف صدقه ، دعونا ننظر حاله ، ونسأل عنه ، من لديه خبره ، أي : لم يكن الأمر كذلك ، فإنهم يعرفون الرسول صلىاللهعليهوسلم ، معرفة تامة ، صغيرهم ، وكبيرهم يعرفون منه كل خلق جميل ، ويعرفون صدقه ، وأمانته ، حتى كانوا يسمونه قبل البعثة «الأمين» فلم لا يصدقونه ، حين جاءهم بالحق العظيم ، والصدق المبين؟
[٧٠] (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون ، فلهذا قال ما قال ، والمجنون ، غير مسموع عنه ، ولا عبرة بكلامه ، لأنه يهذي بالباطل ، والكلام السخيف. قال الله في الرد عليهم في هذه المقالة : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي : بالأمر الثابت ، الذي هو صدق وعدل ، لا اختلاف فيه ، ولا تناقض ، فكيف يكون من جاء به ، به جنة؟! وهلا يكون إلا في أعلى درجات الكمال ، من العلم والعقل ، ومكارم الأخلاق. [وأيضا ، فإن في هذا ، الانتقال ، مما تقدم. أي : بل الحقيقة التي منعتهم من الإيمان ، أنه (جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ). وأعظم الحق الذي جاءهم به ، إخلاص العبادة لله وحده ، وترك ما يعبد من دون الله. وقد علم كراهتهم لهذا الأمر ، وتعجبهم منه. فكون الرسول أتى بالحق ، وكونهم كارهين للحق بالأصل ، هو الذي أوجب لهم التكذيب بالحق ، لا شكّا ولا تكذيبا للرسول ، كما قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). فإن قيل : لم لم يكن الحق موافقا لأهوائهم لأجل أن يؤمنوا أو يسرعوا الانقياد؟ أجاب تعالى بقوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ). ووجه ذلك ، أن أهواءهم ، متعلقة بالظلم ، والكفر ، والفساد ، من الأخلاق ، والأعمال. فلو اتبع الحق أهواءهم ، لفسدت السموات والأرض ، لفساد التصرف والتدبير ، المبني على الظلم وعدم العدل. فالسموات والأرض ، ما استقامتا إلا بالحق والعدل. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي : بهذا القرآن المذكر لهم ، بكل خير ، الذي به فخرهم] (١) ، وشرفهم ، حين يقومون به ، ويكونون به سادة الناس ،
[٧١] (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) شقاوة منهم ، وعدم توفيق (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ). فالقرآن ومن جاء به ، أعظم نعمة ساقها الله إليهم ، فلم يقابلوها إلا بالرد والإعراض ، فهل بعد هذا الإيمان حرمان؟ وهل يكون وراءه إلا نهاية الخسران؟
__________________
(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.