[٩٢] ولهذا نبه على عظمة صفاته بأنموذج من ذلك ، وهو علمه المحيط. فقال : (عالِمِ الْغَيْبِ) أي : الذي غاب عن أبصارنا ، وعلمنا ، من الواجبات ، والمستحيلات ، والممكنات. (وَالشَّهادَةِ) وهو ما نشاهد من ذلك (فَتَعالى) أي : ارتفع وعظم. (عَمَّا يُشْرِكُونَ) به ، ولا علم عندهم ، إلا ما علمه الله.
[٩٣] لما أقام تعالى على المكذبين أدلته العظيمة ، فلم يلتفتوا إليها ، ولم يذعنوا لها ، حق عليهم العذاب ، ووعدوا بنزوله ، وأرشد الله رسوله أن يقول : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) (٩٣) أي : أيّ وقت أريتني عذابهم ، وأحضرتني ذلك.
[٩٤] (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) أي : اعصمني وارحمني ، مما ابتليتهم به من الذنوب الموجبة للنعم ، وارحمني أيضا من العذاب الذي ينزل بهم ، لأن العقوبة العامة ، تعم ـ عند نزولها ـ العاصي وغيره.
[٩٥] قال الله في تقريب عذابهم : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) (٩٥) ولكن إن أخرناه فلحكمة ، وإلا ، فقدرتنا صالحة لإيقاعه.
[٩٦] هذا من مكارم الأخلاق ، التي أمر الله رسوله بها فقال : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي : إذا أساء إليك أعداؤك ، بالقول والفعل ، فلا تقابلهم بالإساءة ، مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته ، ولكن ادفع إساءتهم إليك ، بالإحسان منك إليهم ، فإن ذلك فضل منك على المسيء. ومن مصالح ذلك ، أنه تخف الإساءة عنك ، في الحال ، وفي المستقبل ، وأنه أدعى لجلب المسيء إلى الحقّ ، وأقرب إلى ندمه وأسفه ، ورجوعه بالتوبة عما فعل. ويتصف العافي بصفة الإحسان ، ويقهر بذلك عدوه الشيطان ، ويستوجب الثواب من الرب قال تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وقال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها) أي : ما يوفق لهذا الخلق الجميل (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي : بما يقولون من الأقوال المتضمنة ، للكفر ، والتكذيب بالحق ، قد أحاط علمنا بذلك ، وقد حلمنا عنهم ، وأمهلناهم ، وصبرنا عليهم ، والحقّ لنا ، وتكذيبهم لنا. فأنت ـ يا محمد ـ ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون ، وتقابلهم بالإحسان ، هذه وظيفة العبد في مقابلة المسيء من البشر. وأما المسيء من الشياطين ، فإنه لا يفيد فيه الإحسان. ولا يدعو حزبه ، إلّا ليكونوا من أصحاب السعير.
[٩٧ ـ ٩٨] فالوظيفة في مقابلته ، أن يسترشد بما أرشد الله إليه رسوله فقال : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨) ، أي : أعوذ بك من الشر ، الذي يصيبني بسبب مباشرتهم ، وهمزهم ومسّهم ، ومن الشر ، الذي بسبب حضورهم ، ووسوستهم ، وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله ، ويدخل فيها ، الاستعاذة من جميع نزغات الشيطان ، ومن مسّه ووسوسته ، فإذا أعاذ الله عبده من هذا الشر ، وأجاب دعاءه ، سلم من كلّ شر ، ووفق لكل خير.
[٩٩] يخبر تعالى عن حال من حضره الموت ، من الفرطين الظالمين ، أنه يندم في تلك الحال ، إذا رأى مآله ، وشاهد قبح أعماله. فيطلب الرجعة إلى الدنيا ، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنّما ذلك ليقول :
[١٠٠] (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) من العمل ، وفرطت في جنب الله. (كَلَّا) أي : لا رجعة له ولا إمهال ، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون ، (إِنَّها) أي : مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي : مجرد قول اللسان ، لا يفيد صاحبه إلّا الحسرة والندم ، وهو أيضا غير صادق في ذلك ، فإنه لو ردّ لعاد لما نهي عنه. (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي : من أمامهم وبين أيديهم ، برزخ ، وهو الحاجز بين الشيئين ، فهو هنا : الحاجز بين الدنيا والآخرة. وفي هذا البرزخ ، يتنعم المطيعون ، ويعذب العاصون ، من ابتداء موتهم ، واستقرارهم في قبورهم ، إلى يوم يبعثون ، أي : فليعدوا له عدّته ، وليأخذوا له أهبته.