بها إلى يوم القيامة فكل هذا خير عظيم ، لو لا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك. وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا ، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم. وأخبر أن قدح بعضهم ببعض ، كقدح في أنفسهم. ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، واجتماعهم على مصالحهم ، كالجسد الواحد ، والمؤمن للمؤمن ، كالبنيان يشد بعضه بعضا. فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه ، فليكره من كلّ أحد ، أن يقدح في أخيه المؤمن ، الذي بمنزلة نفسه ، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة ، فإنه من نقص إيمانه ، وعدم نصحه. (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) وهذا وعيد للذين جاؤوا بالإفك ، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك ، وقد حد النبي صلىاللهعليهوسلم منهم جماعة. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي : معظم الإفك ، وهو المنافق الخبيث ، عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، لعنه الله (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.
[١٢] ثمّ أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) أي : ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا ، وهو السّلام مما رموا به ، وأن ما معهم من الإيمان المعلوم ، يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل. (وَقالُوا) بسبب ذلك الظن (سبحانك) أي : تنزيها لك من كلّ سوء ، وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة. (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي : كذب وبهت ، من أعظم الأشياء ، وأبينها. فهذا من الظن الواجب ، حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن ، مثل هذا الكلام ، أن يبرئه بلسانه ، ويكذب القائل لذلك.
[١٣] (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي : هلا جاء الرامون على ما رموا به ، بأربعة شهداء أي : عدول مرضيين. (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك ، فإنهم كاذبون في حكم الله ، لأنه حرم عليهم التكلم بذلك ، من دون أربعة شهود ، ولهذا قال : (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، ولم يقل «فاولئك هم الكاذبون». وهذا كله ، من تعظيم حرمة عرض المسلم ، بحيث لا يجوز الإقدام على رميه ، من دون نصاب الشهادة بالصدق.
[١٤] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بحيث شملكم إحسانه فيهما ، في أمر دينكم ودنياكم. (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ) أي : خضتم (فِيهِ) من شأن الإفك (عَذابٌ عَظِيمٌ) لاستحقاقكم ذلك بما قلتم. ولكن من فضل الله عليكم ورحمته ، أن شرع لكم التوبة ، وجعل العقوبة مطهرة للذنوب.
[١٥] (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي : تتلقفونه ، ويلقيه بعضكم إلى بعض وتستوشون حديثه ، وهو قول باطل. (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) والأمران محظوران ، التكلم بالباطل ، والقول بلا علم. (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) فلذلك أقدم عليه ، من أقدم ، من المؤمنين ، الّذين تابوا منه ، وتطهروا بعد ذلك. (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) وهذا فيه الزجر البليغ ، عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون بها ، فإن العبد لا يفيده حسبانه شيئا ، ولا يخفف من عقوبته ، الذنب ، بل يضاعف الذنب ، ويسهل عليه مواقعته ، مرة أخرى.