الكلام ، والأصل ، عدم الحذف. والثاني : كون المعنى قاصرا على من له حالتان ، حالة غنى بماله ، وحالة عدم. فيخرج العبيد والإماء ، ومن إنكاحه على وليه ، كما ذكرنا. (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وعد للمستعفف أن الله سيغنيه ، وييسر له أمره ، وأمر له بانتظار الفرج ، لئلا يشق عليه ما هو فيه. وقوله : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ) ، أي : من ابتغى وطلب منكم الكتابة ، وأن يشتري نفسه ، من عبيد وإماء ، فأجيبوه إلى ما طلب ، وكاتبوه. (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ) أي : في الطالبين للكتابة (خَيْراً) أي : قدرة على التكسب ، وصلاحا في دينه. لأن في الكتابة ، تحصيل المصلحتين ، مصلحة العتق والحرية ، ومصلحة العوض ، الذي يبذله في فداء نفسه ، وربما جد واجتهد ، وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ، ما لا يحصل عليه في رقه. فلا يكون ضرر على السيد في كتابته ، مع حصول عظيم المنفعة للعبد ، فلذلك أمر الله بالكتابة ، على هذا الوجه ، أمر إيجاب ، كما هو الظاهر ، أو أمر استحباب على القول الآخر ، وأمر بمعاونتهم على كتابتهم ، لكونهم محتاجين لذلك ، بسبب أنهم لا مال لهم فقال : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) يدخل في ذلك أمر سيده ، الذي كاتبه ، أن يعطيه من كتابته ، أو يسقط عنه منها ، وأمر الناس بمعونتهم. ولهذا جعل الله للمكاتبين قسطا من الزكاة ، ورغب في إعطائه بقوله : (مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي : فكما أن المال مال الله ، وإنّما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه ، فأحسنوا لعباد الله ، كما أحسن الله إليكم. ومفهوم الآية الكريمة ، أن العبد إذا لم يطلب الكتابة ، لا يؤمر سيده ، أن يبتدىء بكتابته ، وأنه إذا لم يعلم منه خيرا ، بأن علم منه عكسه ، إما أنه يعلم أنه لا كسب له ، فيكون بسبب ذلك كلّا على الناس ، ضائعا. وإما أن يخاف إذا أعتق ، وصار في حرية نفسه ، أن يتمكن من الفساد ، فهذا لا يؤمر بكتابته ، بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور. ثم قال تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) أي : إماءكم (عَلَى الْبِغاءِ) أي : أن تكون زانية (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) لأنه لا يتصور إكراهها إلّا بهذه الحال. وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا ، يجب على سيدها ، منعها من ذلك. وإنّما نهى عن هذا لما كانوا يستعملونه في الجاهلية ، من كون السيد يجبر أمته على البغاء ، ليأخذ منها أجرة ذلك ، ولهذا قال : (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم ، خيرا منكم ، وأعف عن الزنا ، وأنتم تفعلون بهن ذلك ، لأجل عرض الحياة ، متاع قليل يعرض ، ثم يزول. فكسبكم النزاهة ، والنظافة ، والمروءة ـ بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها ـ أفضل من كسبكم العرض القليل ، الذي يكسبكم الرذالة والخسة. ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة فقال : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فليتب إلى الله وليقلع عما صدر منه ، مما يغضبه ، فإذا فعل ذلك ، غفر الله ذنوبه ، ورحمه كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب ، وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها.
[٣٤] هذا تعظيم وتفخيم لهذه الآيات ، تلاها على عباده ، ليعرفوا قدرها ، ويقوموا بحقها فقال : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) ، أي : واضحات الدلالة ، على كلّ أمر تحتاجون إليه ، من الأصول والفروع ، بحيث لا يبقى فيها إشكال ولا شبهة. (وَ) أنزلنا إليكم أيضا (مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) من أخبار الأولين ، الصالح منهم والطالح ، وصفة أعمالهم ، وما جرى لهم ، وجرى عليهم تعتبرونه مثالا ومعتبرا ، لمن فعل مثل أعمالهم أن يجازى مثل ما جوزوا. (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي : وأنزلنا إليكم موعظة للمتقين ، من الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، يتعظ بها المتقون ، فيكون عما يكره الله إلى ما يحبه الله.
[٣٥] (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الحسي والمعنوي ، وذلك أنه تعالى بذاته ، نور ، وحجابه نور ، الذي لو كشفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ، وبه استنار العرش ، والكرسي ، والشمس ، والقمر والنور ، وبه استنارت الجنة. وكذلك المعنوي ، يرجع إلى الله ، فكتابه نور ، وشرعه نور ، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين ، نور. فلو لا نوره تعالى ، لتراكمت الظلمات ، ولهذا ، كل محل ، يفقد نوره فثمّ الظلمة