عارضها واعترضها فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). أي : وقال الكافرون بالله ، الذي أوجب لهم كفرهم ، أن قالوا في القرآن والرسول : إن هذا القرآن كذب ، كذبه محمد ، وإفك ، افتراه على الله ، وأعانه على ذلك قوم آخرون. فرد الله عليهم ذلك ، بأن هذا مكابرة منهم ، وإقدام على الظلم والزور ، الذي لا يمكن ، أن يدخل عقل أحد ، وهم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وكمال صدقه ، وأمانته ، وبره التام ، وأنه لا يمكنه ، لا هو ، ولا سائر الخلق ، أن يأتوا بهذا القرآن ، الذي هو أجل الكلام وأعلاه ، وأنه لم يجتمع بأحد يعينه ، على ذلك ، فقد جاؤوا بهذا القول ظلما وزورا.
[٥] (وَ) من جملة أقاويلهم فيه ، أن (قالُوا) : هذا الذي جاء به محمد (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) أي : هذا قصص الأولين وأساطيرهم ، التي تتلقاها الأفواه ، وينقلها كل أحد ، استنسخها محمد (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) وهذا القول منهم ، فيه عدة عظائم : منها : رميهم الرسول ، الذي هو أبر الناس وأصدقهم ، بالكذب ، والجرأة العظيمة. ومنها : إخبارهم عن هذا القرآن ، الذي هو أصدق الكلام وأعظمه ، وأجله ، بأنه كذب وافتراء. ومنها : أن في ضمن ذلك ، أنهم قادرون أن يأتوا بمثله ، وأن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه ، للخالق الكامل من كل وجه ، بصفة من صفاته ، وهي الكلام. ومنها : أن الرسول ، قد علمت حاله ، وهم أشد الناس علما بها ، أنه لا يكتب ، ولا يجتمع بمن يكتب له ، وهم قد زعموا ذلك.
[٦] فلذلك رد عليهم ذلك بقوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : أنزله من أحاط علمه بما في السموات ، وما في الأرض ، من الغيب والشهادة ، والجهر والسر ، لقوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٩٤). ووجه إقامة الحجة عليهم ، أن الذي أنزله ، هو المحيط علمه بكل شيء فيستحيل ويمتنع ، أن يقول مخلوق ، ويتقول عليه ، هذا القرآن ، ويقول : هو من عند الله ، وما هو من عنده ، ويستحل دماء من خالفه ، وأموالهم ، ويزعم أن الله قال له ذلك. والله يعلم كل شيء ، ومع ذلك فهو يؤيده وينصره على أعدائه ، ويمكنه من رقابهم وبلادهم ، فلا يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن ، إلا بعد إنكار علم الله. وهذا لا تقول به طائفة من بني آدم ، سوى الفلاسفة الدهرية. وأيضا ، فإن ذكر علمه تعالى العام ، ينبههم ، ويحضهم على تدبر القرآن ، وأنهم لو تدبروا ، لرأوا فيه ، من علمه وأحكامه ، ما يدل دلالة قاطعة ، على أنه لا يكون إلا من عالم الغيب والشهادة. ومع إنكارهم للتوحيد والرسالة من لطف الله بهم ، أنه لم يدعهم وظلمهم ، بل دعاهم إلى التوبة والإنابة إليه ، ووعدهم بالمغفرة والرحمة ، إن هم تابوا ، ورجعوا فقال : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً) أي : وصفه المغفرة ، لأهل الجرائم والذنوب ، إذا فعلوا أسباب المغفرة ، وهي : الرجوع عن معاصيه ، والتوبة منها. (رَحِيماً) بهم ، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، وقد فعلوا مقتضاها ، وحيث قبل توبتهم بعد المعاصي ، وحيث محا ، ما سلف من سيئاتهم ، وحيث قبل حسناتهم ، وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده ، والمقبل عليه بعد إعراضه ، إلى حالة المطيعين المنيبين إليه.