قل لهم ـ مبينا لسفاهة رأيهم ، واختيارهم الضار على النافع ـ (أَذلِكَ) الذي وضعت لكم من العذاب (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) التي زادها تقوى الله ، فمن قام بالتقوى ، فالله قد وعده إياها. (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً) على تقواهم (وَمَصِيراً) موئلا يرجعون إليها ، ويستقرون فيها ، ويخلدون دائما أبدا.
[١٦] (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي : ما يطلبون وتتعلق بهم أمانيهم ومشيئتهم ، من المطاعم ، والمشارب اللذيذة ، والملابس الفاخرة ، والنساء الجميلات ، والقصور العاليات ، والجنات ، والحدائق المرجحنة والفواكه ، التي تسر ناظريها وآكليها ، من حسنها ، وتنوعها ، وكثرة أصنافها ، والأنهار التي تجري في رياض الجنة ، وبساتينها ، حيث شاؤوا يصرفونها ، ويفجرونها أنهارا من ماء غير آسن ، وأنهارا من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهارا من خمر لذة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى ، وروائح طيبة ، ومساكن ، مزخرفة ، وأصوات شجية ، تأخذ من حسنها ، بالقلوب ، ومزاورة الإخوان ، والتمتع بلقاء الأحباب. وأعلى من ذلك كله ، التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم ، وسماع كلامه ، والحظوة بقربه ، والسعادة برضاه ، والأمن من سخطه ، واستمرار هذا النعيم ودوامه ، وزيادته على ممر الأوقات ، وتعاقب الآنات (كانَ) دخولها والوصول إليها (عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) يسأله إياها ، عباده المتقون بلسان حالهم ، ولسان مقالهم ، فأي الدارين المذكورتين ، خير وأولى بالإيثار؟ وأي العاملين ، عمال دار الشقاء ، أو عمال دار السعادة ، أولى بالفضل والعقل ، والفخر ، يا أولي الألباب؟ لقد وضح الحقّ ، واستنار السبيل ، فلم يبق للمفرط عذر ، في تركه الدليل ، فنرجوك يا من قضيت على أقوام بالشقاء ، وأقوام بالسعادة ، أن تجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة. ونستعيذ بك اللهم ، من حالة الأشقياء ، ونسألك المعافاة منها.
[١٧] يخبر تعالى عن حالة المشركين وشركائهم يوم القيامة ، وتبرّيهم منهم ، وبطلان سعيهم فقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي : المكذبين المشركين (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ) الله مخاطبا للمعبودين على وجه التقريع لمن عبدهم : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) هل أمرتموهم بعبادتكم ، وزينتم لهم ذلك ، أم ذلك من تلقاء أنفسهم؟
[١٨] (قالُوا سُبْحانَكَ) نزهوا الله عن شرك المشركين به ، وبرؤوا أنفسهم من ذلك. (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا) أي : لا يليق بنا ، ولا يحسن منا ، أن نتخذ من دونك من أولياء ، نتولاهم ، ونعبدهم ، وندعوهم ، فإذا كنا محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك ، ومتبرّين من عبادة غيرك ، فكيف نأمر أحدا بعبادتنا؟ هذا لا يكون. أو ، سبحانك (أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) وهذا كقول المسيح عيسى ابن مريم عليهالسلام : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) الآية. وقال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٤١) ، (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦). فلما نزهوا أنفسهم ، أن يدعوا لعبادة غير الله ، أو يكونوا