أضلوهم ، ذكروا السبب الموجب لإضلال المشركين فقالوا : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) في لذات الدنيا وشهواتها ، ومطالبها النفسية. (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) اشتغالا في لذات الدنيا ، وانكبابا على شهواتها ، فحافظوا على دنياهم ، وضيعوا دينهم (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي : بائرين لا خير فيهم ، ولا يصلحون لصالح ، لا يصلحون إلا للهلاك والبوار ، فذكروا المانع من اتباعهم الهدى ، وهو التمتع في الدنيا ، الذي صرفهم عن الهدى. وعدم المقتضى للهدى ، وهو : أنهم لا خير فيهم ، فإذا عدموا المقتضى ، ووجد المانع ، فلا نشاء من شر وهلاك ، إلا وجدته فيهم.
[١٩] فلما تبرؤوا منهم ، قال الله توبيخا وتقريعا للمعاندين : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) إنهم أمروكم بعبادتهم ، ورضوا فعلكم وأنهم شفعاء لكم عند ربكم ، كذبوكم في ذلك الزعم ، وصاروا من أكبر أعدائكم ، فحق عليكم العذاب. (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) للعذاب عنكم بفعلكم ، أو بفداء ، أو غير ذلك ، (وَلا نَصْراً) لعجزكم ، وعدم ناصركم. هذا حكم الضالين المقلدين الجاهلين ، كما رأيت ، أسوأ حكم ، وشر مصير. وأما المعاند منهم ، الذي عرف الحقّ وصدف عنه ، فقال في حقه : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) بترك الحقّ ظلما وعنادا (نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) لا يقادر قدره ، ولا يبلغ أمره.
[٢٠] ثمّ قال تعالى جوابا لقول المكذبين : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (١) فما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ، وما جعلناهم ملائكة ، فلك فيهم أسوة. وأما الغنى والفقر ، فهو فتنة ، وحكمة من الله تعالى ، كما قال : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) الرسول فتنة للمرسل إليهم ، واختبار للمطيعين من العاصين ، والرسل فتناهم بدعوة الخلق ، والغني فتنة للفقير ، والفقر فتنة للغني ، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار ، دار الفتن والابتلاء والاختبار. والقصد من تلك الفتنة (أَتَصْبِرُونَ) فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة ، فيثيبكم مولاكم ، أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة؟ (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) يرى ويعلم أحوالكم ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ، ويختصه بتفضيله ، ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
[٢١] أي : قال المكذبون للرسول ، المكذبون بوعد الله ووعيده ، الّذين ليس في قلوبهم خوف الوعيد ، ولا رجاء لقاء الخالق. (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) أي : هلا نزلت الملائكة ، تشهد لك بالرسالة ، وتؤيدك عليها ، أو تنزل رسلا مستقلين ، أو نرى ربنا ، فيكلمنا ، ويقول : هذا رسولي فاتبعوه؟ وهذا معارضة للرسول ، بما ليس بمعارض ، بل بالتكبر والعلو والعتو. (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) حيث اقترحوا هذا الاقتراح ، وتجرؤوا هذه الجرأة ، فمن أنتم يا فقراء ، ويا مساكين. حتى تطلبوا رؤية الله ، وتزعموا أن الرسالة ، متوقف ثبوتها على ذلك؟ وأي كبر أعظم من هذا؟ (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أي : قسوا وصلبوا عن الحقّ ، قساوة عظيمة ، فقلوبهم أشد من الأحجار ،
__________________
(١) في الأصل : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) أي الآية [٨] من سورة الفرقان وهذا خطأ ، والمثبت ـ من القرآن ـ هو الموافق للآية [٢٠] ، فتأمل.