وأصلب من الحديد ، لا تلين للحق ، ولا تصغي للناصحين ، فلذلك لم ينجح فيهم وعظ ولا تذكير ، ولا اتبعوا الحقّ ، حين جاءهم النذير ، بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم ، وآيات الله البينات ، بالإعراض والتكذيب ، فأي عتو أكبر من هذا العتو؟ ولذلك ، بطلت أعمالهم ، واضمحلت ، وخسروا أشد الخسران.
[٢٢] (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) وذلك أنهم لا يرونها ، مع استمرارهم ، على جرمهم وعنادهم ، إلا لعقوبتهم ، وحلول البأس بهم. فأول ذلك عند الموت ، إذا تنزلت عليهم الملائكة ، قال الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ). ثمّ في القبر ، حيث يأتيهم منكر ونكير ، فيسألانهم ، عن ربهم ، ونبيهم ، ودينهم ، فلا يجيبون جوابا ينجيهم ، فيحلون بهم النقمة ، وتزول عنهم بهم الرحمة ، ثمّ يوم القيامة ، حين تسوقهم الملائكة إلى النار ، ثمّ يسلمونهم لخزنة جهنم ، الّذين يتولون عذابهم ، ويباشرون عقابهم. فهذا الذي اقترحوه ، وهذا الذي طلبوه ، إن استمروا على إجرامهم لا بد أن يروه ويلقوه. وحينئذ يتعوذون من الملائكة ، ويفرون ، ولكن لا مفر لهم. (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) (٣٣).
[٢٣] (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) أي : أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم ، وتعبوا فيها. (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) أي : باطلا مضمحلا ، قد خسروه ، وحرموا أجره ، وعوقبوا عليه ، وذلك لفقده الإيمان ، وصدروه عن مكذب لله ورسله ، فالعمل الذي يقبله الله ، هو ما صدر من المؤمن المخلص ، المصدق للرسل المتبع ، لهم فيه.
[٢٤] أي : في ذلك اليوم الهائل ، كثير البلابل (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) الّذين آمنوا بالله ، وعملوا صالحا ، واتقوا ربهم (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) من أهل النار (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أي : مستقرهم في الجنة ، وراحتهم التي هي القيلولة ، هو المستقر النافع ، والراحة التامة ، لاشتمال ذلك ، على تمام النعيم ، الذي لا يشوبه كدر. بخلاف أصحاب النار ، فإن جهنم مستقرهم (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل ، فيما ليس في الطرف الآخر منه شيء ، لأنه لا خير في مقيل أهل النار ومستقرهم ، كقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ).
[٢٥] يخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة ، وما فيه من الشدة والكروب ، ومزعجات القلوب فقال : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) وذلك الغمام الذي ينزل الله فيه ، من فوق السموات ، فتنفطر له السموات ، وتشقق ، وتنزل الملائكة كل سماء ، فيقفون صفا صفا ، إما صفا واحدا محيطا بالخلائق ، وإما كل سماء ، يكونون صفا ، ثمّ السماء التي تليها صفا وهكذا. القصد أن الملائكة ـ على كثرتهم وقوتهم ـ ينزلون محيطين بالخلق ، مذعنين لأمر ربهم ، لا يتكلم منهم أحد إلا بإذن من الله ، فما ظنك بالآدمي الضعيف ، خصوصا ، الذي بارز مالكه بالعظائم ، وأقدم على مساخطه ، ثمّ قدم عليه بذنوب وخطايا ، لم يتب منها ، فيحكم فيه الملك الخلاق ، بالحكم الذي لا يجور ، ولا يظلم مثقال ذرة ، ولهذا قال : (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) لصعوبته الشديدة ، وتعسر أموره عليه ، بخلاف المؤمن ، فإنه يسير عليه ، خفيف الحمل. (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (٨٦).
[٢٦] وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) لا يبقى لأحد من المخلوقين ، ملك ولا صورة ملك ، كما كانوا في الدنيا ، بل قد تساوت الملوك ورعاياهم ، والأحرار ، والعبيد ، والأشراف وغيرهم. ومما يرتاح له القلب ، وتطمئن به النفس ، وينشرح له الصدر ، أنه أضاف الملك في يوم القيامة ، لاسمه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء ، وعمت كل حي ، وملأت الكائنات ، وعمرت بها الدنيا والآخرة ، وتم بها كل ناقص ، وزال بها كل نقص ، وغلبت الأسماء الدالة عليه ، الأسماء الدالة على الغضب ، وسبقت رحمته غضبه وغلبته ، فلها السبق والغلبة. وخلق هذا الآدمي الضعيف ، وشرفه ، وكرمه ، ليتم عليه نعمته ، وليتغمده برحمته. وقد حضروا في موقف الذل ، والخضوع ، والاستكانة بين يديه ، ينتظرون ما يحكم فيهم ، وما يجري عليهم ، وهو أرحم بهم من