الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١) ، فهذا الكلام ، لا يصدر إلا من أجهل الناس وأضلهم ، أو من أعظمهم عنادا ، وهو متجاهل ، قصده ، ترويج ما معه من الباطل ، بالقدح بالحق ، وبمن جاء به ، وإلا ، فمن تدبر أحوال محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوسلم ، وجده رجل العالم ، وهمامهم ، ومقدمهم في العقل ، والعلم ، واللب ، والرزانة ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، والعفة ، والشجاعة ، وكل خلق فاضل ، وأن المحتقر له ، والشانئ له ، قد جمع من السفه والجهل ، والضلال ، والتناقض ، والظلم ، والعدوان ، ما لا يجمعه غيره. وحسبه جهلا وضلالا ، أن يقدح بهذا الرسول العظيم ، والهمام الكريم.
[٤٢] والقصد من قدحهم فيه واستهزائهم به ، تصلّبهم على باطلهم ، وتغرير ضعفاء العقول ، ولهذا قالوا : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) بأن يجعل الآلهة إلها واحدا (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) لأضلنا ، فزعموا ـ قبحهم الله ـ أن الضلال هو التوحيد ، وأن الهدى ، ما هم عليه من الشرك ، فلهذا تواصوا بالصبر عليه. (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ). وهنا قالوا : (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) والصبر يحمد في المواضع كلها ، إلا في هذا الموضع ، فإنه صبر على أسباب الغضب ، وعلى الاستكثار من حطب جهنم. وأما المؤمنون ، فهم كما قال الله عنهم : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ). ولما كان هذا ، حكما منهم ، بأنهم المهتدون ، والرسول ضال ، وقد تقرر أنهم لا حيلة فيهم ، توعدهم بالعذاب ، وأخبر أنهم في ذلك الوقت (حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) يعلمون علما حقيقيا (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) (٢٧) الآيات.
[٤٣] وهل فوق ضلال من جعل إلهه هواه ، فما هويه ، فعله ، فلهذا قال : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ألا تعجب من حاله ، وتنظر ما هو فيه من الضلال؟ وهو يحكم لنفسه بالمنازل الرفيعة؟ (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) أي : لست عليه بمسيطر مسلط ، بل إنّما أنت منذر. قد قمت بوظيفتك ، وحسابه على الله.
[٤٤] ثمّ سجل تعالى على ضلالهم البليغ ، بأن سلبهم العقول والأسماع ، وشبههم في ضلالهم بالأنعام السائمة ، التي لا تسمع ، إلا دعاء ونداء ، صم ، بكم ، عمي فهم لا يعقلون ، بل هم أضل من الأنعام ، فإن الأنعام يهديها راعيها فتهتدي ، وتعرف طريق هلاكها ، فتجتنبه ، وهي أيضا أسلم عاقبة من هؤلاء. فتبين بهذا ، أن الرامي للرسول بالضلال ، أحق بهذا الوصف ، وأن كل حيوان بهيم ، فهو أهدى منه.
[٤٥ ـ ٤٦] (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي : ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك ، كمال قدرة ربك ، وسعة رحمته ، أنه مدّ على العباد ، الظل ، وذلك قبل طلوع الشمس (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ) أي : على الظل (دَلِيلاً) ، فلولا وجود الشمس ، لما عرف الظل ، فإن الضد يعرف بضده. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (٤٦) فكلما ارتفعت الشمس ، تقلص الظل ، شيئا فشيئا ، حتى يذهب بالكلية ، فتوالي الظل والشمس على الخلق ، الذي يشاهدونه عيانا ، وما يترتب على ذلك ، من اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما ، وتعاقب الفصول ، وحصول المصالح الكثيرة ، بسبب ذلك ـ من أدل دليل ، على قدرة الله وعظمته ، وكمال رحمته ، وعنايته بعباده ، وأنه وحده ، المعبود المحمود ، المحبوب المعظم ، ذو الجلال والإكرام.
[٤٧] أي : من رحمته بكم ولطفه ، أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس ، الذي يغشاكم ، حتى تستقروا فيه ، وتهدؤوا بالنوم ، وتسبت حركاتكم ، أي : تنقطع عند النوم. فلو لا الليل ، لما سكن العباد ، ولا استمروا في تصرفهم ، فضرهم ذلك غاية الضرر ، ولو استمر أيضا الظلام لتعطلت عليهم ، معايشهم ، ومصالحهم ، ولكنه جعل النهار نشورا ينتشرون فيه ، لتجاراتهم ، وأسفارهم ، وأعمالهم ، فيقوم بذلك ، ما يقوم من المصالح.
[٤٨] أي : هو وحده ، الذي رحم عباده ، وأدرّ عليهم رزقه ، بأن أرسل الرياح مبشرات ، بين يدي رحمته ، وهو : المطر ، فثار بها السحاب ، وتألف ، وصار كسفا ، وألحقته ، وأدرته بإذن ربها ، والمتصرف فيها ، ليقع استبشار