[٨] (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي : ناداه الله تعالى وأخبره ، أن هذا محل مقدس مبارك. ومن بركته ، أن جعله الله موضعا لتكليم الله لموسى وإرساله. (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على أن يظن به نقص ، أو سوء ، بل هو الكامل ، في وصفه ، وفعله.
[٩] (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩) أي : أخبره الله أنه الله المستحق للعبادة ، وحده لا شريك له ، كما في الآية الأخرى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١٤). (الْعَزِيزُ) الذي قهر جميع الأشياء ، وأذعنت له كل المخلوقات ، (الْحَكِيمُ) في أمره وخلقه. ومن حكمته ، أن أرسل عبده ، موسى بن عمران ، الذي علم الله منه ، أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه. ومن عزته ، أن تعتمد عليه ، ولا تستوحش من انفرادك ، وكثرة أعدائك ، وجبروتهم. فإن نواصيهم ، بيد الله ، وحركاتهم وسكونهم ، بتدبيره.
[١٠] (وَأَلْقِ عَصاكَ) فألقاها (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) وهو ذكر الحيات ، سريع الحركة. (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ذعرا من الحية التي رأى ، على مقتضى الطبائع البشرية. فقال الله له : (يا مُوسى لا تَخَفْ) وقال في الآية الأخرى : (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ). (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) لأن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره ، وتصريفه ، وأمره. فالذين اختصهم الله برسالته ، واصطفاهم لوحيه ، لا ينبغي لهم أن يخافوا غير الله ، خصوصا عند زيادة القرب منه ، والحظوة بتكليمه.
[١١] (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي : فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى من الظلم ، وما تقدم له من الجرم. وأما المرسلون ، فما لهم وللوحشة ، والخوف؟ ومع هذا ، من ظلم نفسه بمعاصي الله ، وتاب وأناب ، فبدل سيئاته حسنات ، ومعاصيه طاعات ، فإن الله غفور رحيم. فلا يبأس أحد من رحمته ومغفرته ، فإنه يغفر الذنوب جميعا ، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
[١٢] (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) لا برص ولا نقص ، بل بياض يبهر الناظرين شعاعه. (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أي : هاتان الآيتان ، انقلاب العصا حية تسعى ، وإخراج اليد من الجيب ، فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات ، تذهب بها ، وتدعو فرعون وقومه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ، فسقوا بشركهم ، وعتوهم ، وعلوهم على عباد الله ، واستكبارهم في الأرض ، بغير الحقّ. فذهب موسى عليهالسلام إلى فرعون وملئه ، ودعاهم إلى الله تعالى ، وأراهم الآيات.
[١٣] (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) مضيئة ، تدل على الحقّ ، ويبصر بها كما تبصر الأبصار بالشمس. (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) لم يكفهم مجرد القول بأنه سحر ، بل قالوا : (مُبِينٌ) ظاهر لكل أحد. وهذا من أعجب العجائب ، الآيات المبصرات ، والأنوار الساطعات تجعل من بين الخزعبلات ، وأظهر السحر. هل هذا ، إلا من أعظم المكابرة ، وأوقح السفسطة.
[١٤] (وَجَحَدُوا بِها) أي كفروا بآيات الله ، جاحدين لها. (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي : ليس جحدهم ، مستندا إلى الشك والريب. وإنّما جحدهم مع علمهم ، وتيقنهم بصحتها (ظُلْماً) منهم لحق ربهم ولأنفسهم. (وَعُلُوًّا) على الحقّ وعلى العباد ، وعلى الانقياد للرسل. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أسوأ عاقبة ، دمرهم الله وأغرقهم في البحر ، وأخزاهم ، وأورث مساكنهم المستضعفين من عباده.
[١٥] يذكر في هذا القرآن ، وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه ، بالعلم الواسع الكثير ، بدليل التنكير ، كما قال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) الآية. (وَقالا) شاكرين لربهما منته ، الكبرى بتعليمهما : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) فحمدا الله على جعلهما من المؤمنين ، أهل السعادة ، وأنهما كانا من خواصهم. ولا شك أن المؤمنين أربع