درجات : الصالحون ، ثمّ فوقهم : الشهداء ، ثمّ فوقهم : الصديقون ، ثمّ فوقهم : الأنبياء. وداود وسليمان ، من خواص الرسل ، وإن كانا دون درجة أولي العزم الخمسة. لكنهما من جملة الرسل الفضلاء الكرام ، الّذين نوه الله بذكرهم ، ومدحهم في كتابه ، مدحا عظيما ، فحمدا الله على بلوغ هذه المنزلة. وهذا عنوان سعادة العبد ، أن يكون شاكرا لله على نعمه ، الدينية والدنيوية ، وأن يرى جميع النعم من ربه. فلا يفخر بها ولا يعجب بها ، بل يرى أنها تستحق عليه شكرا كثيرا. فلما مدحهما مشتركين ، خص سليمان ، بما خصه به ، لكون الله أعطاه ملكا عظيما ، وصار له من المجريات ، ما لم يكن لأبيه ، صلى الله عليهما وسلم ، فقال :
[١٦] (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي : ورث علمه ونبوته ، فانضم علم أبيه إلى علمه ، فلعله ، تعلم من أبيه ما عنده ، من العلم ، مع ما كان عليه من العلم وقت أبيه ، كما تقدم من قوله ففهمناها سليمان. وقالا : شكرا لله ، وتبجحا بإحسانه ، وتحدثا بنعمته : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) فكان عليه الصلاة والسّلام ، يفقه ما تقول ، وتتكلم به ، كما راجع الهدهد ، وراجعه ، وكما فهم قول النملة للنمل ، كما يأتي ، وهذا ، لم يكن لأحد غير سليمان عليهالسلام. (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي : أعطانا الله من النعم ، ومن أسباب الملك ، ومن السلطنة والقهر ، ما لم يؤت أحدا من الآدميين. ولهذا دعا ربه فقال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فسخر الله له الشياطين ، يعملون له كل ما شاء ، من الأعمال ، التي يعجز عنها غيرهم ، وسخر له الريح ، غدوها شهر ، ورواحها شهر. (إِنَّ هذا) الذي أعطانا الله ، وفضلنا ، واختصنا به (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) الواضح الجلي ، فاعترف أكمل اعتراف بنعمة الله تعالى.
[١٧] (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٧) أي : جمع له جنوده الكثيرة ، الهائلة ، المتنوعة ، من بني آدم ، ومن الجن ، والشياطين ، ومن الطيور فهم يوزعون ، يدبرون ، ويرد أولهم على آخرهم ، وينظمون غاية التنظيم ، في سيرهم ونزولهم ، وحلهم ، وترحالهم قد استعد لذلك ، وأعد له عدته. وكل هذه الجنود مؤتمرة بأمره ، لا تقدر على عصيانه ، ولا تتمرد عليه ، كما قال تعالى : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي : أعط بغير حساب ، فسار بهذه الجنود الضخمة في بعض أسفاره.
[١٨] (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ) منبهة لرفقتها ، وبني جنسها : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). فنصحت هذه النملة ، وأسمعت النمل ، إما بنفسها ، ويكون الله قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة ، لأن التنبيه للنمل ، الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة ، من أعجب العجائب. وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل ، ثمّ سرى الخبر من بعضهن لبعض ، حتى بلغ الجميع ، وأمرتهن بالحذر ، والطريق في ذلك ، وهو دخول مساكنهن. وعرفت حالة سليمان وجنوده ، وعظمة سلطانه ، واعتذرت عنهم ، أنهم إن حطموكم ، فليس عن قصد منهم ، ولا شعور ، فسمع سليمان عليه الصلاة والسّلام قولها ، وفهمه.
[١٩] (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) إعجابا منه ، بنصح أمتها ، ونصحها ، وحسن تعبيرها. وهذا حال الأنبياء ،