عليهم الصلاة والسّلام ، الأدب الكامل ، والتعجب في موضعه ، وأن لا يبلغ بهم الضحك ، إلا إلى التبسم. كما كان الرسول صلىاللهعليهوسلم جلّ ضحكه ، التبسم ، فإن القهقهة ، تدل على خفة العقل ، وسوء الأدب. وعدم التبسم والعجب ، مما يتعجب منه ، يدل على شراسة الخلق ، والجبروت. والرسل منزهون عن ذلك. وقال شاكرا لله ، الذي أوصله إلى هذه الحال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي : ألهمني ووفقني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ). فإن النعمة على الوالدين ، نعمة على الولد. فسأل ربه ، التوفيق للقيام بشكر نعمته ، الدينية ، والدنيوية ، عليه وعلى والديه. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي : ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه ، لكونه موافقا لأمرك ، مخلصا فيه ، سالما من المفسدات والمنقصات. (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ) التي منها الجنة (فِي) جملة (عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) فإن الرحمة مجعولة للصالحين ، على اختلاف درجاتهم ومنازلهم. فهذا نموذج ، ذكره الله من حالة سليمان ، عند سماعه خطاب النملة ونداءها.
[٢٠] ثمّ ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) دل هذا ، على كمال عزمه وحزمه ، وحسن تنظيمه لجنوده ، وتدبيره بنفسه ، للأمور الصغار والكبار. حتى إنه لم يهمل هذا الأمر ، وهو : تفقد الطيور ، والنظر ، هل هي موجودة كلها ، أم مفقود منها شيء؟ وهذا هو المعنى للآية. ولم يصنع شيئا من قال : إنه تفقد الطير ، لينظر أين الهدهد منه ، ليدله على بعد الماء وقربه ، كما زعموا عن الهدهد ، أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة ، فإن هذا القول ، لا يدل عليه دليل ، بل الدليل العقلي واللفظي ، دال على بطلانه. أما العقلي : فإنه قد عرف بالعادة ، والتجارب ، والمشاهدات ، أن هذه الحيوانات كلها ، ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة ، وينظر الماء تحت الأرض الكثيفة ، ولو كان كذلك ، لذكره الله ، لأنه من أكبر الآيات. وأما الدليل اللفظي : فلو أريد هذا المعنى ، لقال : «وطلب الهدهد لينظر له الماء ، فلما فقده قال ما قال» أو «فتش عن الهدهد ، أو بحث عنه» ونحو ذلك من العبارات. وإنّما تفقد الطير ، لينظر الحاضر منها والغائب ، ولزومها للمراكز والمواضع ، التي عينها لها. وأيضا فإن سليمان عليهالسلام ، لا يحتاج ، ولا يضطر إلى الماء ، بحيث يحتاج لهندسة الهدهد. فإن عنده من الشياطين ، والعفاريت ، ما يحفرون له الماء ، ولو بلغ في العمق ما بلغ. وسخر الله له الريح ، غدوها شهر ، ورواحها شهر ، فكيف ـ مع ذلك ـ يحتاج إلى الهدهد؟ وهذه التفاسير ، التي توجد ، وتشتهر بها أقوال ، لا يعرف غيرها ، تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل ، مجردة ، ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة ، وتطبيقها على الأقوال ، ثمّ لا تزال تتناقل ، وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم ، حتى يظن أنها الحقّ. فيقع من الأقوال الردية في التفاسير ، ما يقع. واللبيب الفطن ، يعرف أن هذا القرآن الكريم ، العربي المبين ، الذي خاطب الله به الخلق كلهم ، عالمهم ، وجاهلهم ، وأمرهم بالتفكر في معانيه ، وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني ، التي لا تجهلها العرب العرباء ، وإذا وجد أقوالا منقولة عن غير رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ردها إلى هذا الأصل. فإن وافقه ، قبلها ، لكون اللفظ دالا عليها ، وإن خالفته لفظا ومعنى ، أو لفظا أو معنى ، ردها ، وجزم ببطلانها ، لأن عنده أصلا معلوما ، مناقضا لها ، وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته. والشاهد أن تفقد سليمان عليهالسلام للطير ، وفقده الهدهد ، يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه ، وكمال فطنته ، حتى تفقد هذا الطائر الصغير (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي : هل عدم رؤيتي إياه ، لقلة فطنتي به ، لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة؟. أم على بابها ، بأن كان غائبا من غير إذني ، ولا أمري؟.
[٢١] فحينئذ تغيظ عليه ، وتوعده فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) دون القتل ، (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : حجة واضحة على تخلفه. وهذا من كمال ورعه وإنصافه ، أنه لم يقسم على مجرد عقوبته ، بالعذاب أو القتل ، لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب. وغيبته ، قد تحتمل أنها لعذر واضح ، فلذلك استثناه ، لورعه وفطنته.