[٢٢] (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) ثمّ جاء ، وهذا يدل على هيبة جنوده منه ، وشدة ائتمارهم لأمره ، حتى إن هذا الهدهد ، الذي خلفه العذر الواضح ، لم يقدر على التخلف زمنا كثيرا. (فَقالَ) لسليمان (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) عندي من العلم ، علم ما أحطت به ، على علمك الواسع ، وعلو درجتك فيه. (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) القبيلة ، المعروفة في اليمن (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي : خبر متيقن.
[٢٣] ثمّ فسر هذا النبأ فقال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) أي : تملك قبيلة سبأ ، وهي امرأة (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يؤتاه الملوك ، من الأموال ، والسلاح ، والجنود ، والحصون ، والقلاع ونحو ذلك. (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي : كرسي ملكها ، الذي تجلس عليه ، عرش هائل. وعظم العروش ، تدل على عظمة المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى.
[٢٤] (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : هم مشركون يعبدون الشمس. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فرأوا ما هم عليه هو الحقّ. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) لأن الذي يرى أن الذي هو عليه حق ، لا مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته.
[٢٥] ثمّ قال : (أَلَّا) أي : هلا (يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يعلم الخفي الخبيء ، في أقطار السموات ، وأنحاء الأرض ، من صغار المخلوقات ، وبذور النباتات ، وخفايا الصدور. ويخرج خبء الأرض والسماء ، بإنزال المطر ، وإنبات النباتات ، ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض ، ليجازيهم بأعمالهم (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ).
[٢٦] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا تنبغي العبادة ، والإنابة ، والذل ، والحب ، إلا له ، لأنه المألوه ، لما له من الصفات الكاملة ، والنعم الموجبة لذلك. (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي هو سقف المخلوقات ووسع الأرض والسموات. فهذا الملك ، عظيم السلطان ، كبير الشأن ، هو الذي يذل له ، ويخضع ، ويسجد له ، ويركع. فسلم الهدهد ، حين ألقي إليه هذا النبأ العظيم ، وتعجب سليمان كيف خفي عليه.
[٢٧ ـ ٢٨] وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) وسيأتي نصه (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي : استأخر غير بعيد (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) إليك وما يتراجعون به.
[٢٩] فذهب به فألقاه عليها ، فقالت لقومها : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي : جليل المقدار ، من أكبر ملوك الأرض.
[٣٠ ـ ٣١] ثمّ بينت مضمونه فقالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١) أي : لا تكونوا فوقي ، بل اخضعوا تحت سلطاني ، وانقادوا لأوامري ، وأقبلوا إليّ مسلمين. وهذا في غاية الوجازة ، مع البيان التام ، فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه ، والبقاء على حالهم ، التي هم عليها والانقياد لأمره ، والدخول تحت طاعته ، ومجيئهم إليه ، ودعوتهم إلى الإسلام. وفيه استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة ،