بأقرب طريق موصل لذلك. وأن لا يكون القصد منها ، مجرد المجادلة والمغالبة ، وحب العلو ، بل يكون القصد بيان الحقّ ، وهداية الخلق. (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) من أهل الكتاب ، بأن ظهر من قصد المجادل منهم وحاله ، أنه لا إرادة له في الحقّ ، وإنّما يجادل ، على وجه المشاغبة والمغالبة. فهذا لا فائدة في جداله ، لأن المقصود منها ضائع. (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) أي : ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم ، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم ، وعلى أن الإله واحد. ولا تكن مناظرتكم إياهم ، على وجه يحصل به القدح ، في شيء من الكتب الإلهية ، أو بأحد من الرسل ، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم ، يقدح بجميع ما معهم ، من حق وباطل ، فهذا ظلم ، وخروج عن الواجب وآداب النظر. فإن الواجب ، أن يرد ما مع الخصم من الباطل ، ويقبل ما معه من الحقّ. ولا يرد الحقّ لأجل قوله ، ولو كان كافرا. وأيضا فإن بناء مناظرة أهل الكتاب ، على هذا الطريق ، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن ، وبالرسول الذي جاء به. فإنه إذا تكلّم في الأصول الدينية ، والّتي اتفقت عليها الأنبياء والكتب وتقررت عند المتناظرين ، وثبتت حقائقها عندهما ، وكانت الكتب السابقة والمرسلون ، مع القرآن ومحمد صلىاللهعليهوسلم ، قد بينتها ، ودلت وأخبرت بها ، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها ، والرسل كلهم ، وهذا من خصائص الإسلام. فأما أن يقال : نؤمن بما دلّ عليه الكتاب الفلاني ، دون الكتاب الفلاني ، وهو الحقّ الذي صدق ما قلبه ، فهذا ظلم وهوى. وهو يرجع إلى قومه بالتكذيب ؛ لأنه إذا كذّب القرآن الدال عليها ، المصدق لما بين يديه ، فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن. وأيضا فإن كلّ طريق تثبت بها نبوة أي نبي كان ، فإن مثلها وأعظم منها ، دالة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم. وكلّ شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإن مثلها ، أو أعظم منها ، يمكن توجيهها إلى نبوة غيره. فإذا ثبت بطلانها في غيره ، فثبوت بطلانها في حقه صلىاللهعليهوسلم ، أظهر وأظهر. وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي : منقادون مستسلمون لأمره. ومن آمن به ، واتخذه إلها ، وآمن بجميع كتبه ، ورسله ، وانقاد لله واتبع رسله ، فهو السعيد. ومن انحرف عن هذا الطريق ، فهو الشقي.
[٤٧] أي : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد ، هذا (الْكِتابَ) الكريم ، المبين كلّ نبأ عظيم. الداعي إلى كل خلق فاضل ، وأمر كامل ، المصدق للكتب السابقة ، المخبر به الأنبياء الأقدمون. (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فعرفوه حق معرفته ، ولم يداخلهم حسد وهوى. (يُؤْمِنُونَ بِهِ) لأنهم تيقنوا صدقه ، بما لديهم من الموافقات ، وبما عندهم من البشارات ، وبما تميزوا به ، من معرفة الحسن والقبيح ، والصدق والكذب. (وَمِنْ هؤُلاءِ) الموجودين (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) إيمانا عن بصيرة ، لا عن رغبة ولا رهبة. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) الّذين دأبهم الجحود للحق ، والعناد له. وهذا حصر لمن كفر به ، لا يكون من أحد ، قصده متابعة الحقّ. وإلا فكل من له قصد صحيح ، فإنه لا بد أن يؤمن به ، لما اشتمل عليه من البينات ، لكل من له عقل ، أو ألقى السمع وهو شهيد. ومما يدل على صحته ، أنه جاء به هذا النبي الأمين ، الذي عرف قومه صدقه ، وأمانته ، ومدخله ومخرجه ، وسائر أحواله ، وهو لا يكتب بيده خطأ ، بل ولا يقرأ خطأ مكتوبا. فإتيانه به في هذه الحال ، من أظهر البينات القاطعة ، الّتي لا تقبل الارتياب ، أنه من عند الله العزيز الحميد ، ولهذا قال :
[٤٨] (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) أي : تقرأ (مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً) لو كنت بهذه الحال (لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) فقالوا : تعلمه من الكتب السابقة ، أو استنسخه منها.
[٤٩] فأما وقد نزل على قلبك ، كتابا جليلا تحديت به الفصحاء البلغاء ، الأعداء الألداء أن يأتوا بمثله ، أو بسورة من مثله ، فعجزوا غاية العجز ، بل ولا حدثتهم أنفسهم بالمعارضة ، لعلمهم ببلاغته وفصاحته ، وأن كلام أحد من البشر ، لا يبلغ أن يكون مجاريا له أو على منواله ، ولهذا قال : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) إلى (الظَّالِمُونَ). (بَلْ هُوَ) أي : هذا القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ) لا خفيات. (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم : سادة الخلق ،