ذلك ، بأن تعوض عنه كلّ باطل من القول ، فترك أعلى الأقوال ، وأحسن الحديث ، واستبدل به أسفل قول وأقبحه ، فلذلك قال : (وَمِنَ النَّاسِ) إلى (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). أي (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ) هو محروم مخذول (يَشْتَرِي) أي : يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن في الشيء. (لَهْوَ الْحَدِيثِ) أي : الأحاديث الملهية للقلوب ، الصادّة لها عن أجلّ مطلوب. فدخل في هذا ، كل كلام محرم ، وكلّ لغو ، وباطل ، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر ، والفسوق ، والعصيان ، ومن أقوال الرادين على الحقّ ، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحقّ ، ومن غيبة ، ونميمة ، وكذب ، وشتم ، وسب ، ومن غناء ومزامير شيطان ، ومن المجريات الملهية ، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا. فهذا الصنف من الناس ، يشتري لهو الحديث ، عن هدي الحديث (لِيُضِلَ) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : بعد ما ضل هو في فعله ، أضل غيره ، لأن الإضلال ، ناشىء عن الضلال. وإضلاله في هذا الحديث ، صده عن الحديث النافع ، والعمل النافع ، والحقّ المبين ، والصراط المستقيم. ولا يتم له هذا ، حتى يقدح في الهدى والحقّ ، الذي جاءت به آيات الله. (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) يسخر بها ، وبمن جاء بها. فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه ، والقدح في الحقّ ، والاستهزاء به وبأهله ، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه ، من القول الذي لا يميزه ذلك الضال ، ولا يعرف حقيقته. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) بما ضلوا ، واستهزؤوا بآيات الله ، وكذّبوا الحقّ الواضح. ولهذا قال : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) ليؤمن بها وينقاد لها. (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) أي : أدبر إدبار مستكبر عنها ، رادّ لها ، ولم تدخل قلبه ولا أثرت فيه ، بل أدبر عنها (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) بل (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي : صمما لا تصل إليه الأصوات ، فهذا لا حيلة في هدايته. (فَبَشِّرْهُ) بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم ، وفي بشرته السوء ، والظلمة ، والغبرة. (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم لقلبه ، ولبدنه ، لا يقادر قدره ، ولا يدري بعظيم أمره. فهذه بشارة أهل الشر ، فلا نعمت البشارة.
[٨] وأما بشارة أهل الخير فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جمعوا بين عبادة الباطن بالإيمان ، والظاهر بالإسلام ، والعمل الصالح. (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) بشارة لهم بما قدموه ، وقرى لهم بما أسلفوه. (خالِدِينَ فِيها) أي ، في جنات النعيم ، نعيم الروح ، والبدن.
[٩] (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) لا يمكن أن يخلف ، ولا يغير ، ولا يتبدل. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كامل العزة ، كامل الحكمة. من عزته وحكمته ، أن وفّق من وفّق ، وخذل من خذل ، بحسب ما اقتضاه علمه فيهم ، وحكمته.
[١٠] يتلو تعالى على عباده ، آثارا من آثار قدرته ، وبدائع من بدائع حكمته ، ونعما من آثار رحمته ، فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ) السبع ، على عظمها ، وسعتها ، وكثافتها ، وارتفاعها الهائل. (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي : ليس لها عمد ، ولو كان لها عمد لرؤيت وإنّما استقرت واستمسكت ، بقدرة الله تعالى. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي : جبالا عظيمة ، ركزها في أرجائها وأنحائها ، لئلا (تَمِيدَ بِكُمْ) فلو لا الجبال الراسيات ، لمادت الأرض ، ولما استقرت