بساكنها. (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي : نشر في الأرض الواسعة ، من جميع أصناف الدواب ، التي هي مسخرة لبني آدم ، ولمصالحهم ، ومنافعهم. ولما بثها في الأرض ، علم تعالى أنه لا بد لها من رزق تعيش به ، فأنزل من السماء ماء مباركا. (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) المنظر ، نافع مبارك ، فرتعت فيه الدواب المنبثة ، وسكن إليه كل حيوان.
[١١] (هذا) أي : خلق العالم العلوي والسفلي ، من جماد ، وحيوان ، وسوق أرزاق الخلق إليهم (خَلْقُ اللهِ) وحده لا شريك له ، كل مقر بذلك حتى أنتم يا معشر المشركين. (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي : الّذين جعلتموهم له شركاء ، تدعونهم وتعبدونهم ، يلزم على هذا ، أن يكون لهم خلق كخلقه ، ورزق كرزقه. فإن كان لهم شيء من ذلك ، فأرونيه ، ليصح ما ادعيتم فيهم من استحقاق العبادة. ومن المعلوم أنهم لا يقدرون أن يروه شيئا من الخلق لها ، لأن جميع المذكورات ، قد أقروا أنها خلق الله وحده ، ولا ثمّ شيء يعلم غيرها. فثبت عجزهم عن إثبات شيء لها تستحق به أن تعبد. ولكن عبادتهم إياها ، عن غير علم وبصيرة ، بل عن جهل وضلال ، ولهذا قال : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : جلي واضح حيث عبدوا من لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وتركوا الإخلاص للخالق الرازق المالك لكل الأمور.
[١٢] يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان ، بالحكمة ، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته ، فهي العلم بالأحكام ، ومعرفة ما فيها ، من الأسرار والإحكام. فقد يكون الإنسان عالما ، ولا يكون حكيما. وأما الحكمة ، فهي مستلزمة للعلم ، بل وللعمل ، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع ، والعمل الصالح. ولما أعطاه الله هذه المنة العظيمة ، أمره أن يشكره على ما أعطاه ، ليبارك له فيه ، وليزيده من فضله ، وأخبره أن شكر الشاكرين ، يعود نفعه عليهم ، وأن من كفر فلم يشكر الله ، عاد وبال ذلك عليه. (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عنه (حَمِيدٌ) فيما يقدره ويقضيه ، على من خالف أمره. فغناه تعالى ، من لوازم ذاته ، وكونه حميدا في صفات كماله ، حميدا في جميل صنعه ، من لوازم ذاته ، وكلّ واحد من الوصفين ، صفة كمال ، واجتماع أحدهما إلى الآخر ، زيادة كمال إلى كمال.
[١٣] واختلف المفسرون ، هل كان لقمان نبيا ، أو عبدا صالحا؟ والله تعالى لم يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة ، وذكر بعض ما يدل على حكمته ، في وعظه لابنه. فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ). وقال له قولا يعظه به ، والوعظ : الأمر ، والنهي ، المقرون بالترغيب والترهيب. فأمره بالإخلاص ، ونهاه عن الشرك ، وبيّن له السبب في ذلك فقال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ووجه كونه ظلما عظيما ، أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوّى المخلوق من تراب ، بمالك الرقاب. وسوّى الذي لا يملك من الأمر شيئا ، بمالك الأمر كله. وسوّى الناقص الفقير من جميع الوجوه ، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه. وسوّى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النّعم ، بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ، ودنياهم ، وأخراهم ، وقلوبهم ، وأبدانهم ، إلا منه ، ولا يصرف السوء إلا هو. فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ وهل أعظم ظلما ، ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده ، فذهب بنفسه الشريفة ، فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئا ، فظلم نفسه ظلما كبيرا.
[١٤] ولما أمر بالقيام بحقه ، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد ، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) أي : عهدنا إليه ، وجعلناه وصية عنده ، سنسأله عن القيام بها ، وهل حفظها أم لا؟ فوصيناه (بِوالِدَيْهِ) وقلنا له (اشْكُرْ لِي) بالقيام بعبوديتي ، وأداء حقوقي ، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي. (وَلِوالِدَيْكَ) بالإحسان إليهما بالقول اللين ، والكلام اللطيف ، والفعل الجميل ، والتواضع لهما ، وإكرامهما ، وإجلالهما ، والقيام بمؤونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كلّ وجه ، بالقول والفعل. فوصيناه بهذه الوصية ، وأخبرناه أن (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي : سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك ، وكلفك بهذه الحقوق ، فيسألك : هل قمت بها ، فيثيبك الثواب الجزيل؟ أم ضيعتها ، فيعاقبك العقاب الوبيل؟ وذلك السبب الموجب لبر الوالدين في الأم فقال :