فما جعلهن الله (أُمَّهاتِكُمْ) ، أمك من ولدتك ، وصارت أعظم النساء عليك ، حرمة وتحريما. وزوجتك أحلّ النساء لك ، فكيف تشبه أحد المتناقضين بالآخر؟ هذا أمر لا يجوز ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً). (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) والأدعياء ، جمع «دعيّ» وهو : الولد الذي كان الرجل يدعيه ، وهو ليس له ، أو يدعى إليه ، بسبب تبنيه إياه ، كما كان الأمر في الجاهلية ، وأول الإسلام. فأراد الله تعالى أن يبطله ويزيله ، فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه ، وأنه باطل وكذب ، وكل باطل وكذب ، لا يوجد في شرع الله ، ولا يتصف به عباد الله. يقول تعالى ؛ فالله لم يجعل الأدعياء الذين تدعونهم ، أو يدعون إليكم ، أبناءكم. فإن أبناءكم في الحقيقة ، من ولدتموهم ، وكانوا منكم. أما هؤلاء الأدعياء من غيركم ، فلا جعل الله هذا كهذا. (ذلِكُمْ) القول ، الذي تقولون في الدعي : إنه ابن فلان الذي ادعاه ، أو والده فلان (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي : قول لا حقيقة له ولا معنى له. (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) أي : اليقين والصدق ، فلذلك أمركم باتباعه ، على قوله وشرعه. فقوله حق ، وشرعه حق ، والأقوال والأفعال الباطلة لا تنسب إليه بوجه من الوجوه وليست من هدايته ؛ لأنه لا يهدي إلا إلى السبيل المستقيمة ، والطرق الصادقة. وإن كان ذلك واقعا بمشيئته ، فمشيئته عامة ، لكل ما وجد من خير وشر.
[٥] ثم صرّح لهم بترك الحالة الأولى ، المتضمنة للقول الباطل فقال : (ادْعُوهُمْ) أي : الأدعياء (لِآبائِهِمْ) الذين ولدوهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي : أعدل ، وأقوم ، وأهدى. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) الحقيقيين (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي : إخوتكم في دين الله ، ومواليكم في ذلك ، فادعوهم بالأخوة الإيمانية الصادقة ، والموالاة على ذلك ، فترك الدعوة إلى من تبناهم حتم ، لا يجوز فعلها. وأما دعاؤهم لآبائهم ، فإن علموا ، دعوا إليهم ، وإن لم يعلموا ، اقتصر على ما يعلم منهم ، وهو أخوة الدين والموالاة. فلا تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم ، عذر في دعوتهم إلى من تبناهم ، لأن المحذور لا يزول بذلك. (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) بأن سبق على لسان أحدكم ، دعوته إلى من تبناه ، فهذا غير مؤاخذ به ، أو علم أبوه ظاهرا ، فدعوتموه إليه وهو في الباطن غير أبيه ، فليس في ذلك حرج ، إذا كان خطأ. (وَلكِنْ) يؤاخذكم في (ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) من الكلام ، بما لا يجوز. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) غفر لكم ، ورحمكم ، حيث لم يعاقبكم بما سلف ، وسمح لكم بما أخطأتم به ، ورحمكم حيث بيّن لكم أحكامه ، التي تصلح دينكم ودنياكم ، فله الحمد تعالى.
[٦] يخبر تعالى المؤمنين ، خبرا يعرفون به حالة الرسول صلىاللهعليهوسلم ومرتبته ، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أقرب ما للإنسان ، وأولى ما له نفسه. فالرسول أولى بالمؤمن من نفسه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ، بذل لهم من النصح ، والشفقة ، والرأفة ، ما كان به أرحم الخلق ، وأرأفهم. فرسول الله ، أعظم الخلق منّة عليهم ، من كل أحد ، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر ، إلا