[١٢] وهنالك تبين نفاق المنافقين ، وظهر ما كانوا يضمرون ، قال تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلى (إِلَّا غُرُوراً). وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة ، لا يثبت إيمانه ، وينظر بعقله القاصر ، إلى الحالة الحاضرة ، ويصدق ظنه.
[١٣] (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي : من المنافقين ، بعد ما جزعوا وقلّ صبرهم ، وصاروا أيضا من المخذولين ، فلا صبروا بأنفسهم ، ولا تركوا الناس من شرهم. فقالت هذه الطائفة : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) يريدون «يا أهل المدينة». فنادوهم باسم الوطن المنبئ عن التسمية فيه ، إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية ، ليس لهما في قلوبهم قدر ، وأن الذي حملهم على ذلك مجرد الخور الطبيعي. (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) أي : في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة. وكانوا عسكروا دون الخندق ، وخارج المدينة (فَارْجِعُوا) إلى المدينة. فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد ، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم ، ويأمرونهم بترك القتال. فهذه الطائفة ، شر الطوائف وأضرها. وطائفة أخرى دونهم ، أصابهم الجبن والجزع ، وأحبوا أن ينخذلوا عن الصفوف. فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة ، وهم الّذين قال الله فيهم : (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي : عليها الخطر ، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء ، ونحن غيّب عنها ، فائذن لنا نرجع إليها ، فنحرسها ، وهم كذبة في ذلك. (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ) أي : ما قصدهم (إِلَّا فِراراً) ولكن جعلوا هذا الكلام ، وسيلة وعذرا لهم. فهؤلاء قلّ إيمانهم ، وليس لهم ثبوت عند اشتداد المحن.
[١٤] (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) المدينة (مِنْ أَقْطارِها) أي : لو دخل الكفار إليها من نواحيها ، واستولوا عليها (ثُمَ) سئل هؤلاء (الْفِتْنَةَ) أي : الانقلاب عن دينهم ، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين (لَآتَوْها) أي : لأعطوها مبادرين. (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي : ليس لهم منعة ولا تصلّب على الدين ، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء ، يعطونهم ما طلبوا ، ويوافقونهم على كفرهم ، هذه حالهم.
[١٥] والحال أنهم (كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ) سيسألهم عن ذلك العهد ، فيجدهم قد نقضوه ، فما ظنهم إذا بربهم؟
[١٦] (قُلْ) لهم ـ لائما على فرارهم ، ومخبرا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئا (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) فلو كنتم في بيوتكم ، لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم. والأسباب تنفع ، إذا لم يعارضها القضاء والقدر ، فإذا جاء القضاء والقدر ، تلاشى كلّ سبب ، وبطلت كلّ وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. (وَإِذاً) حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل ، ولتنعموا في الدنيا فإنكم (لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) متاعا ، لا يسوي فراركم ، وترككم أمر الله ، وتفويتكم على أنفسكم ، التمتع الأبدي ، في النعيم السرمدي.
[١٧] ثمّ بيّن أن الأسباب كلها ، لا تغني عن العبد شيئا ، إذا أراده الله بسوء فقال : (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) أي : يمنعكم (مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) أي : شرا. (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) فإنه هو المعطي المانع ، الضار النافع ، الذي لا يأتي بالخير إلا هو ، ولا يدفع السوء إلا هو. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يتولاهم ، فيجلب لهم المنافع (وَلا