سلكه من أسباب قصر العمر ، كالزنا ، وعقوق الوالدين ، وقطيعة الأرحام ، ونحو ذلك ، مما ذكر أنها من أسباب قصر العمر. والمعنى : أن طول العمر وقصره ، بسبب ، وبغير سبب ، كله بعلمه تعالى ، وقد أثبت ذلك (فِي كِتابٍ) حوى ما يجري على العبد ، في جميع أوقاته ، وأيام حياته. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي : إحاطة علمه بتلك المعلومات الكثيرة ، وإحاطة كتابه بها. فهذه ثلاثة أدلة ، من أدلة البعث والنشور ، كلها عقلية ، نبه الله عليها في هذه الآيات : إحياء الأرض بعد موتها ، وأن الذي أحياها سيحيي الموتى ، وتنقل الآدمي في تلك الأطوار. فالذي أوجده ونقله ، طبقا بعد طبق ، وحالا بعد حال ، حتى بلغ ما قدر له ، فهو على إعادته وإنشائه النشأة الأخرى أقدر ، وهو أهون عليه ، وإحاطة علمه بجميع أجزاء العالم ، العلوي ، والسفلي ، دقيقها ، وجليلها ، الذي في القلوب ، والأجنّة الّتي في البطون ، وزيادة الأعمار ونقصها ، وإثبات ذلك كله في كتاب. فالذي كان هذا يسيرا عليه ، فإعادته للأموات ، أيسر وأيسر. فتبارك من كثر خيره ، ونبه عباده على ما فيه صلاحهم ، في معاشهم ، ومعادهم.
[١٢] هذا إخبار عن قدرته ، وتوالي حكمته ، ورحمته أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي كلهم ، وأنه لم يسوّ بينهما ، لأن المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار ، عذبة فراتا ، سائغا شرابها ، لينتفع بها الشاربون ، والغارسون ، والزارعون. وأن يكون البحر ، ملحا أجاجا ، لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض ، بروائح ما يموت في البحر ، من الحيوانات ، ولأنه ساكن لا يجري ، فملوحته تمنعه من التغير ، ولتكون حيواناته ، أحسن وألذ ، ولهذا قال : (وَمِنْ كُلٍ) من البحر الملح والعذاب (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) وهو السمك المتيسر صيده في البحر. (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) من لؤلؤ ، ومرجان ، وغيره ، مما يوجد في البحر. فهذه مصالح عظيمة للعباد. ومن المصالح أيضا والمنافع في البحر ، أن سخره الله تعالى لحمل الفلك ، من السفن ، والمراكب ، فتراها تمخر البحر وتشقه ، فتسلك من إقليم إلى إقليم آخر ، ومن محل إلى محل ، فتحمل السائرين وأثقالهم ، وتجاراتهم ، فيحصل بذلك من فضل الله وإحسانه ، شيء كثير ، ولهذا قال : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على النّعم المتقدم ذكرها.
[١٣] ومن ذلك أيضا إيلاجه تعالى الليل بالنهار ، والنهار بالليل ، يدخل هذا على هذا ، كلما أتى أحدهما ، ذهب الآخر ، ويزيد أحدهما ، وينقص الآخر ، ويتساويان فيقوم بذلك ، ما يقوم من مصالح العباد في أبدانهم ، وحيواناتهم وأشجارهم ، وزروعهم. وكذلك ما جعل الله في تسخير الشمس والقمر ، من مصالح الضياء والنور والحركة والسكون. وانتشار العباد في طلب فضله ، وما فيها من إنضاج الثمار وتجفيف ما يجفف ، وغير ذلك ، مما هو من الضروريات ، الّتي لو فقدت للحق الناس الضرر. وقوله : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : كل من الشمس والقمر ، يسيران في فلكهما ، ما شاء الله أن يسيرا. فإذا جاء الأجل ، وقرب انقضاء الدنيا ، انقطع سيرهما ، وتعطل سلطانهما وخسف القمر ، وكورت الشمس ، وانتثرت النجوم. فلما بيّن تعالى ما بيّن من هذه المخلوقات العظيمة ، وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه ، قال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي : الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها ، هو الرب المألوه المعبود ، الذي له الملك كله. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأوثان والأصنام (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي : لا يملكون شيئا ، لا قليلا ، ولا كثيرا ؛ حتى ولا القطمير الذي هو أحقر الأشياء. وهذا من تنصص النفي وعمومه ، فكيف يدعون ، وهم غير مالكين لشيء ، من ملك السموات والأرض؟
[١٤] ومع هذا (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة ربهم. (وَلَوْ سَمِعُوا) على وجه الفرض والتقدير (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لأنهم لا يملكون شيئا ، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده ، ولهذا قال : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي : يتبرؤون منكم ؛ ويقولون : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ). (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي : لا أحد ينبئك ؛ أصدق من الله العليم الخبير. فاجزم بأن هذا الأمر ، الذي نبأ به ؛ كأنه رأي عين ، فلا تشك ولا تمتر. فتضمنت هذه الآيات ، الأدلة والبراهين ، الساطعة ، والدالة على أنه تعالى