الحقّ ، لزم أن كلّ ما دل عليه من المسائل الإلهية والغيبية وغيرها ، مطابق لما في الواقع ، فلا يجوز أن يراد به ، ما يخالف ظاهره ، وما دل عليه. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب والرسل ، لأنها أخبرت به ، فلما وجد وظهر ، ظهر به صدقها. فهي بشرت به وأخبرت ، وهو مصدقها ، ولهذا لا يمكن أحدا ، أن يؤمن بالكتب السابقة ، وهو كافر بالقرآن أبدا. لأن كفره به ينقض إيمانه بها ، لأن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن ، ولأن أخبارها مطابقة لأخبار القرآن. (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) فيعطي كلّ أمة ، وكلّ شخص ، ما هو اللائق بحاله. ومن ذلك ، أن الشرائع السابقة ، لا تليق إلا بوقتها وزمانها. ولهذا ، ما زال الله يرسل الرسل رسولا بعد رسول ، حتى ختمهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم. فجاء بهذا الشرع ، الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم القيامة ويتكفل بما هو الخير في كلّ وقت. ولهذا لما كانت هذه الأمة ، أكمل عقولا ، وأحسنهم أفكارا ، وأرقهم قلوبا وأزكاهم أنفسا. اصطفاهم تعالى ، واصطفى لهم دين الإسلام ، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب ، ولهذا قال :
[٣٢] (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) وهم هذه الأمة. (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالمعاصي ، الّتي هي دون الكفر. (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) مقتصر على ما يجب عليه ، تارك للمحرم. (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) أي : سارع فيها واجتهد ، فسبق غيره ، وهو المؤدي للفرائض ، المكثر من النوافل ، التارك للمحرم والمكروه. فكلهم اصطفاه الله تعالى ، لوراثة هذا الكتاب ، وإن تفاوتت مراتبهم ، وتميزت أحوالهم. فلكل منهم ، قسط من وراثته ، حتى الظالم لنفسه ، فإن ما معه من أصل الإيمان ، وعلوم الإيمان ، وأعمال الإيمان ، من وراثة الكتاب. لأن المراد بوراثة الكتاب ، وراثة علمه وعمله ، ودراسة ألفاظه ، واستخراج معانيه. وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) راجع إلى السابق إلى الخيرات ، لئلا يغتر بعمله ، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق الله تعالى ومعونته ، فينبغي له أن يشتغل بشكر الله تعالى ، على ما أنعم به عليه. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي : وراثة الكتاب الجليل ، لمن اصطفى تعالى من عباده ، هو الفضل الكبير ، الذي جميع النّعم بالنسبة إليه ، كالعدم. فأجل النعم على الإطلاق ، وأكبر الفضل ، وراثة الكتاب.
[٣٣] ثمّ ذكر جزاء الّذين أورثهم الكتاب فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) أي : جنات مشتملات ، على الأشجار ، والظل الظليل ، والحدائق الحسنة ، والأنهار المتدفقة ، والقصور العالية ، والمنازل المزخرفة ، في أبد لا يزول ، وعيش لا ينفد. والعدن «الإقامة» فجنات عدن أي : جنات إقامة ، أضافها للإقامة ، لأن الإقامة والخلود وصفها ووصف أهلها. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) وهو الحلي الذي يجعل في اليدين ، على ما يحبون ، ويرون أنه أحسن من غيره ، الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء. (وَ) يحلون فيها (لُؤْلُؤاً) ينظم في ثيابهم وأجسادهم. (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) من سندس ، ومن إستبرق أخضر.
[٣٤] (وَ) لما تم نعيمهم ، وكملت لذتهم (قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وهذا يشمل كلّ حزن ، فلا