القرآن ، أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته ، فينبه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها.
[٣] (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣) هذا هو المقسم عليه ، وهو رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وإنك يا محمد ، من جملة المرسلين ، فلست ببدع من الرسل. وأيضا فجئت بما جاء به الرسل من الأصول الدينية. وأيضا فمن تأمل أحوال المرسلين ، وأوصافهم ، وعرف الفرق بينهم وبين غيرهم ، عرف أنك من خيار المرسلين ، بما فيك من الصفات الكاملة ، والأخلاق الفاضلة. ولا يخفى ما بين المقسم به ، وهو القرآن الحكيم ، وبين المقسم عليه ، وهو رسالة الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم ، من الاتصال ، وأنه لو لم يكن لرسالته دليل ولا شاهد ، إلا هذا القرآن الحكيم ، لكفى به دليلا وشاهدا ، على رسالة محمد. بل القرآن العظيم ، أقوى الأدلة المتصلة المستمرة ، على رسالة الرسول. فأدلة القرآن كلها ، أدلة لرسالة محمد صلىاللهعليهوسلم.
[٤] ثمّ أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلىاللهعليهوسلم ، الدالة على رسالته ، وهو أنه (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) معتدل موصل إلى الله وإلى دار كرامته. وذلك الصراط المستقيم ، مشتمل على أعمال ، وهي الأعمال الصالحة ، والمصلحة للقلب والبدن ، والدنيا والآخرة ، والأخلاق الفاضلة المزكية للنفس المطهرة للقلب ، المنمية للأجر. فهذا الصراط المستقيم ، الذي هو وصف الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ووصف دينه الذي جاء به. فتأمل جلالة هذا القرآن الكريم ، كيف جمع بين القسم بأشرف الأقسام ، على أجل مقسم عليه. وخبر الله وحده كاف ، ولكنه تعالى أقام من الأدلة الواضحة ، والبراهين الساطعة في هذا الموضع ، على صحة ما أقسم عليه ، من رسالة رسوله ، وما نبهنا عليه ، وأشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه.
[٥] وهذا الصراط المستقيم (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٥) فهو الّذين أنزل به كتابه ، وأنزله طريقا لعباده ، موصلا لهم إليه ، فحماه بعزته ، عن التغيير والتبديل ، ورحم به عباده ، رحمة اتصلت بهم ، حتى أوصلتهم إلى دار رحمته. ولهذا ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين ، العزيز ، الرحيم.
[٦ ـ ٧] فلما أقسم تعالى على رسالته ، وأقام الأدلة عليها ، ذكر شدة الحاجة إليها واقتضاء الضرورة لها فقال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٦) وهم العرب الأميون ، الّذين لم يزالوا خالين من الكتب ، عادمين الرسل ، قد عمتهم الجهالة ، وغمرتهم الضلالة. فأرسل الله إليهم رسولا من أنفسهم ، يزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. فينذر العرب الأميين ، ومن لحق بهم من كلّ أمي. ويذكر أهل الكتب. بما عندهم من الكتب ، فنعمة الله به على العرب خصوصا ، وعلى غيرهم عموما. ولكن هؤلاء الّذين بعثت لإنذارهم ، بعد ما أنذرتهم ، انقسموا قسمين : قسم رد لما جئت به ، ولم يقبل النذارة ، وهم الّذين قال الله فيهم (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧) أي : نفذ فيهم القضاء والمشيئة ، أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم. وإنّما حق عليهم القول ، بعد أن عرض عليهم الحقّ فرفضوه ، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم.
[٨] وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم فقال : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) هي جمع «غل» و «الغل» ما