الظلمات إلى النور. ونزل مشتملا على الحقّ في أخباره الصادقة ، وأحكامه العادلة. فكل ما دلّ عليه ، فهو أعظم أنواع الحقّ ، من جميع المطالب العلمية ، وما بعد الحقّ إلا الضلال. ولما كان نازلا من الحقّ ، مشتملا على الحقّ لهداية الخلق ، على أشرف الخلق ، عظمت فيه النعمة ، وجلّت ، ووجب القيام بشكرها ، وذلك بإخلاص الدين لله ، فلهذا قال :
[٢] (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي : أخلص لله تعالى جميع دينك ، من الشرائع الظاهرة ، والشرائع الباطنة : الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ـ بأن تفرد الله وحده بها ، وتقصد بها وجهه ، لا غير ذلك من المقاصد.
[٣] (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) هذا تقرير للأمر بالإخلاص ، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله ، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه ، فكذلك له الدين الخالص ، والصافي من جميع الشوائب. فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه ، وارتضاه لصفوة خلقه ، وأمرهم به ؛ لأنه متضمن للتأله لله في حبه ، وخوفه ، ورجائه ، والإنابة إليه ، وتحصيل مطالب عباده. وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها ، دون الشرك به في شيء من العبادة. فإن الله بريء منه ، وليس لله فيه شيء ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك. وهو مفسد للقلوب والأرواح ، والدنيا والآخرة مشق ، للنفوس غاية الشقاء. فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص ، نهى عن الشرك به ، وأخبر بذم من أشرك به فقال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي : يتولونهم بعبادتهم ودعائهم ، معتذرين عن أنفسهم وقائلين : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي : لترفع حوائجنا لله ، وتشفع لنا عنده. وإلا ، فنحن نعلم أنها ، لا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تملك من الأمر شيئا. أي : فهؤلاء ، قد تركوا ما أمر الله به من الإخلاص ، وتجرؤوا على أعظم المحرمات ، وهو الشرك ، وقاسوا الذي ليس كمثله شيء ، الملك العظيم ، بالملوك. وزعموا ـ بعقولهم الفاسدة ، ورأيهم السقيم ، أن الملوك كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء ، وشفعاء ، ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم ، ويستعطفونهم عليهم ، ويمهدون لهم الأمر في ذلك ـ أن الله تعالى كذلك. وهذا القياس من أفسد الأقيسة ، وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق ، مع ثبوت الفرق العظيم ، عقلا ، ونقلا ، وفطرة ، فإن الملوك ، إنّما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم ، لأنهم لا يعلمون أحوالهم. فيحتاجون إلى من يعلمهم بأحوالهم ، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة. فيحتاج من يعطّفه عليهم ويسترحمه لهم ، ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء ، ويخافون منهم ، فيقضون حوائج من توسطوا لهم مراعاة لهم ، ومداراة لخواطرهم. وهم أيضا فقراء ، قد يمنعون ، لما يخشون من الفقر. وأما الرب تعالى ، فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها ، الذي لا يحتاج إلى من يخبره بأحوال رعيته وعباده. وهو تعالى ، أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، لا يحتاج إلى أحد من خلقه ، يجعله راحما لعباده ، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم. وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب الّتي ينالون بها رحمته. وهو يريد من مصالحهم ، ما لا يريدونه لأنفسهم. وهو الغني ، الذي له الغنى التام المطلق ، الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد ،