ولم يكن معطلا عنها ، بوقت من الأوقات. والشاهد من هذا ، أن الله تعالى ، أخبر عن نفسه الكريمة ، أنه خالق لجميع العالم العلوي والسفلي ، وأنه على كل شيء وكيل. والوكالة التامة ، لا بد فيها من علم الوكيل ، بما كان وكيلا عليه ، وإحاطته بتفاصيله. ومن قدرة تامة على ما هو وكيل عليه ، ليتمكن من التصرف فيه ، ومن حفظ لما هو وكيل عليه ، ومن حكمة ، ومعرفة ، بوجوه التصرفات ، ليصرفها ويدبرها ، على ما هو الأليق ، فلا تتم الوكالة إلا بذلك كله ، فما نقص من ذلك ، فهو نقص فيها. ومن المعلوم المتقرر ، أن الله تعالى منزه عن كل نقص ، في أي صفة من صفاته. فإخباره بأنه على كل شيء وكيل ، يدل على إحاطة علمه بجميع الأشياء ، وكمال قدرته على تدبيرها ، وكمال تدبيره ، وكمال حكمته ، التي يضع بها الأشياء مواضعها. (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : مفاتيحها ، علما وتدبيرا ، ف (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢). فلما بيّن من عظمته ، ما يقتضي أن تمتلىء القلوب له إجلالا وإكراما ، ذكر حال من عكس القضية ، فلم يقدره حق قدره فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) الدالة على الحق اليقين ، والصراط المستقيم. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا ، ما به تصلح القلوب ، من التأله والإخلاص لله. وما به تصلح الألسن ، من إشغالها بذكر الله ، وما تصلح به الجوارح من طاعة الله. وتعوضوا عن ذلك كل مفسد للقلوب والأبدان ، وخسروا جنات النعيم ، وتعرضوا عنها ، بالعذاب الأليم.
[٦٤] (قُلْ) يا أيها الرسول ، لهؤلاء الجاهلين ، الذين دعوك إلى عبادة غير الله : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي : هذا الأمر صدر من جهلكم ، وإلا فلو كان لكم علم بأن الله تعالى ، الكامل من جميع الوجوه ، مسدي جميع النعم ، هو المستحق للعبادة ، دون من كان ناقصا من كل وجه ، لا ينفع ، ولا يضر ، لم تأمروني بذلك.
[٦٥] وذلك لأن الشرك بالله ، محبط للأعمال ، مفسد للأحوال ، ولهذا قال : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من جميع الأنبياء. (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، هذا مفرد مضاف ، يعم كل عمل. ففي نبوة جميع الأنبياء ، أن الشرك محبط لجميع الأعمال ، كما قال تعالى في سورة الأنعام ـ لما عد كثيرا من أنبيائه ورسله قال عنهم : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٨). (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) دينك وآخرتك. فبالشرك تحبط الأعمال ، ويستحق العقاب والنكال.
[٦٦] ثم قال : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) لما أخبر أن الجاهلين يأمرونه بالشرك ، وأخبر عن شناعته ، أمره بالإخلاص فقال : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) أي : أخلص له العبادة ، وحده لا شريك له. (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الله ، على توفيق الله تعالى. فكما أنه يشكر على النعم الدنيوية ، كصحة الجسم وعافيته ، وحصول الرزق وغير ذلك. كذلك يشكر ويثنى عليه ، بالنعم الدينية ، كالتوفيق للإخلاص ، والتقوى ، بل نعم الدين ، هي النّعم على الحقيقة. وفي تدبر أنها من الله تعالى والشكر لله عليها ، سلامة من آفة العجب ، التي تعرض لكثير من العاملين ، بسبب جهلهم. وإلا ، فلو عرف العبد حقيقة الحال ، لم يعجب بنعمة تستحق عليه زيادة الشكر.
[٦٧] يقول تعالى : وما قدر هؤلاء المشركون ربهم حق قدره ، ولا عظموه حق تعظيمه ، بل فعلوا ما يناقض ذلك ، من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه وأفعاله. فأوصافه ناقصة من كل وجه ، وأفعاله ، ليس عنده نفع ولا ضر ، ولا عطاء ، ولا منع ، ولا يملك من الأمر شيئا. فسووا هذا المخلوق الناقص ، بالخالق الرب العظيم ، الذي ـ من عظمته الباهرة ، وقدرته القاهرة ـ أن جميع الأرض يوم القيامة ، قبضة للرحمن ، وأن السموات ـ على سعتها وعظمتها ـ مطويات بيمينه. فلم يعظمه حق تعظيمه ، من سوّى به غيره ، وهل أظلم ممن فعل ذلك؟ (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزه ، وتعاظم عن شركهم به.
[٦٨] لما خوفهم تعالى عن عظمته ، خوفهم بأحوال يوم القيامة ، ورغّبهم ورهّبهم فقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وهو قرن عظيم ، لا يعلم عظمته إلا خالقه ، ومن أطلعه الله على علمه من خلقه. فينفخ فيه إسرافيل عليهالسلام ؛