وامتناع ذلك عليهم ، وتوبيخهم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أطلقه ليشمل أنواع الكفر كلها ، من الكفر بالله ، أو بكتبه ، أو برسله ، أو باليوم الآخر ، حين يدخلون النار ، ويقرون أنهم يستحقونها ، لما فعلوه من الذنوب والأوزار ، فيمقتون أنفسهم لذلك أشد المقت ، ويغضبون عليها غاية الغضب ، فينادون عند ذلك. ويقال لهم : (لَمَقْتُ اللهِ) أي : إياكم (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي : حين دعتكم الرسل وأتباعهم ، إلى الإيمان ، وأقاموا لكم من البينات ، ما تبين به الحقّ ، فكفرتم ، وزهدتم في الإيمان ، الذي خلقكم الله له ، وخرجتم من رحمته الواسعة ، فمقتكم وأبغضكم. فهذا (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي : فلم يزل هذا المقت ، مستمرا عليكم ، والسخط من الكريم حالّا بكم ، حتى آلت بكم الحال ، إلى ما آلت. فاليوم حلّ عليكم غضب الله وعقابه ، حين نال المؤمنون رضوان الله وثوابه.
[١١] فتمنوا الرجوع ، و (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) يريدون الموتة الأولى ، وما بين النفختين على ما قيل ، أو العدم المحض قبل إيجادهم ، ثمّ أماتهم بعد ما أوجدهم. (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الحياة الدنيا ، والحياة الأخرى. (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي : تحسروا وقالوا ذلك ، فلم يفد ولم ينجع ، ووبخوا على عدم فعل أسباب النجاة ، فقيل لهم :
[١٢] (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) أي : إذا دعي لتوحيده ، وإخلاص العمل له ، ونهي عن الشرك به (كَفَرْتُمْ) به ، واشمأزت لذلك قلوبكم ، ونفرتم غاية النفور. (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي : هذا الذي أنزلكم هذا المنزل ، وبوأكم هذا المقيل والمحل ، أنكم تكفرون بالإيمان ، وتؤمنون بالكفر. ترضون بما هو شر وفساد في الدنيا والآخرة ، وتكرهون ما هو خير وصلاح ، في الدنيا والآخرة. تؤثرون سبب الشقاوة ، والذل ، والغضب ، وتزهدون بما هو سبب الفوز والفلاح والظفر (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً). (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِ) العلي : الذي له العلو المطلق ، من جميع الوجوه ، علو الذات ، وعلو القدر ، وعلو القهر. ومن علو قدره ، كمال عدله تعالى ، وأنه يضع الأشياء مواضعها ، ولا يساوي بين المتقين والفجار. (الْكَبِيرِ) الذي له الكبرياء والعظمة والمجد ، في أسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، المتنزه عن كلّ آفة ، وعيب ، ونقص. فإذا كان الحكم له تعالى ، وقد حكم عليكم بالخلود الدائم ، فحكمه لا يغير ولا يبدل.
[١٣] يذكر تعالى نعمه العظيمة ، على عباده ، بتبيين الحقّ من الباطل ، بما يري عباده من آياته النفسية ، والآفاقية ، والقرآنية ، الدالة على كلّ مطلوب مقصود ، الموضحة للهدى من الضلال ، بحيث لا يبقى عند الناظر فيها ، والمتأمل لها ، أدنى شك في معرفة الحقائق. وهذا من أكبر نعمه على عباده ، حيث لم يبق الحقّ مشتبها ، ولا الصواب ملتبسا. بل نوّع الدلالات ، ووضح الآيات ، ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيا من حي عن بيّنة. وكلّما كانت المسائل أجلّ وأكبر ، كانت الدلائل عليها أكثر وأيسر. فانظر إلى التوحيد ، لما كانت مسألته من أكبر المسائل ، بل أكبرها ، كثرت الأدلة عليها العقلية والنقلية ، وتنوعت ، وضرب الله لها الأمثال ، وأكثر لها من الاستدلال. ولهذا ذكرها في هذا الموضع ، ونبه على جملة من أدلتها ، فقال : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). ولما ذكر أنه يري عباده