يستلزم البيان التام ، والتفريق بين كل شيء ، وتمييز الحقائق. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي : باللغة الفصحى أكمل اللغات ، فصّلت آياته وجعل عربيا. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي : لأجل أن يتبين لهم معناه ، كما يتبين لفظه. ويتضح لهم الهدى من الضلال ، والغيّ من الرشاد. وأما الجاهلون ، الّذين لا يزيدهم الهدى إلا ضلالا ، ولا البيان إلا عمى فهؤلاء لم يسق الكلام لأجلهم ، (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
[٤] (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي : بشيرا بالثواب العاجل والآجل ، ونذيرا بالعقاب العاجل والآجل وذكر تفصيلهما ، وذكر الأسباب والأوصاف التي تحصل بها البشارة والنذارة. وهذه الأوصاف للكتاب ، مما يوجب أن يتلّقى بالقبول ، والإذعان ، والإيمان به ، والعمل به. ولكن أعرض أكثر الخلق إعراض المستكبرين ، (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) له سماع قبول وإجابة ، وإن كانوا قد سمعوه سماعا ، تقوم عليهم به الحجة الشرعية.
[٥] (وَقالُوا) أي : هؤلاء المعرضون عنه ، مبينين عدم انتفاعهم به ، بسد الأبواب الموصلة إليه : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي : أغطية مغشاة (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي : صمم فلا نسمع (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) فلا نراك. القصد من ذلك ، أنهم أظهروا الإعراض عنه ، من كل وجه ، وأظهروا بغضه ، والرضا بما هم عليه ، ولهذا قالوا : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) أي : كما رضيت بالعمل بدينك ، فإننا راضون كل الرضا بالعمل في ديننا. وهذا من أعظم الخذلان ، حيث رضوا بالضلال عن الهدى ، واستبدلوا الكفر بالإيمان ، وباعوا الآخرة بالدنيا.
[٦ ـ ٧] (قُلْ) لهم ، يا أيها النبي : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) أي : هذه صفتي ووظيفتي ، أني بشر مثلكم ، ليس بيدي من الأمر شيء ، ولا عندي ما تستعجلون به. وإنّما فضلني الله عليكم ، وميّزني ، وخصّني ، بالوحي الذي أوحاه إليّ وأمرني باتباعه ، ودعوتكم إليه. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي : اسلكوا الصراط الموصل إلى الله تعالى ، بتصديق الخبر الذي أخبر به ، واتباع الأمر ، واجتناب النهي ، هذه حقيقة الاستقامة ، ثمّ الدوام على ذلك. وفي قوله : (إِلَيْهِ) تنبيه على الإخلاص ، وأن العامل ينبغي له أن يجعل مقصوده وغايته ، التي يعمل لأجلها ، الوصول إلى الله ، وإلى دار كرامته ، فبذلك يكون عمله خالصا صالحا نافعا ، وبفواته ، يكون عمله باطلا. ولما كان العبد ، ولو حرص على الاستقامة ، لا بد أن يحصل منه خلل بتقصير بمأمور ، أو ارتكاب منهي ، أمرهم بدواء ذلك بالاستغفار المتضمن للتوبة فقال : (وَاسْتَغْفِرُوهُ) ثمّ توعّد من ترك الاستقامة فقال : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي : الّذين عبدوا من دونه ، من لا يملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا. ودسوا أنفسهم ، فلم يزكوها بتوحيد ربهم والإخلاص له ، ولم يصلوا ولا زكوا ، فلا إخلاص منهم للخالق بالتوحيد والصلاة ، ولا نفع للخلق منهم بالزكاة وغيرها. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي : لا يؤمنون بالبعث ، ولا بالجنة والنار. فلذلك لما زال الخوف من قلوبهم ، أقدموا على ما أقدموا عليه ، مما يضرهم في الآخرة.
[٨] ولما ذكر الكافرين ، ذكر المؤمنين ، ووصفهم وجزاءهم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بهذا الكتاب ، وما اشتمل عليه مما دعا إليه