النافع ، الذي ما بالعباد من نعمة ، إلا منه ، ولا يدفع الشر ، إلا هو و (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ). ولهذا قال هنا : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي : يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ، ما شاء (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق على من يشاء ، حتى يكون بقدر حاجته ، لا يزيد عنها ، وكل هذا تابع لعلمه وحكمته ، فلهذا قال : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم أحوال عباده ، فيعطي كلّا ، ما يليق بحكمته ، وتقتضيه مشيئته.
[١٣] هذه أكبر منة أنعم الله بها على عباده ، أن شرع لهم من الدين خير الأديان وأفضلها ، وأزكاها وأطهرها ؛ دين الإسلام ، الذي شرعه الله للمصطفين المختارين من عباده. بل شرعه الله لخيار الخيار ، وصفة الصفوة وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية ، أعلى الخلق درجة ، وأكملهم من كل وجه. فالدين الذي شرعه الله لهم ، لا بد أن يكون مناسبا لأحوالهم ، وموافقا لكمالهم ، بل إنما كملهم الله واصطفاهم ، بسبب قيامهم به. فلو لا الدين الإسلامي ، ما ارتفع أحد من الخلق ، فهو روح السعادة ، وقطب رحى الكمال ، وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم ، ودعا إليه من التوحيد والأعمال ، والأخلاق ، والآداب. وقال : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أي : أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه ، تقيمونه بأنفسكم ، وتجتهدون في إقامته على غيركم ، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان. (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي : ليحصل منكم اتّفاق على أصول الدين وفروعه. واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل ، وتحزبكم أحزابا وشيعا ، يعادي بعضكم بعضا ، مع اتفاقكم على أصل دينكم. ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه ، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة ، كاجتماع الحج والأعياد ، والجمع ، والصلوات الخمس ، والجهاد ، وغير ذلك ، من العبادات ، التي لا تتم ، ولا تكمل إلا بالاجتماع لها ، وعدم التفرق. (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي : شق عليهم غاية المشقة ، حيث دعوتهم إلى الإخلاص لله وحده ، كما قال عنهم : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥) وقولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥). (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) أي : يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته. ومنه ، أن اجتبى هذه الأمة ، وفضّلها على سائر الأمم ، واختار لها أفضل الأديان وخيرها. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) هذا السبب الذي من العبد ، يتوصل به إلى هداية الله تعالى وهو : إنابته لربه ، وانجذاب دواعي قلبه إليه ، وكونه قاصدا وجهه. فحسن مقصد العبد ، مع اجتهاده في طلب الهداية ، من أسباب التيسير لها ، كما قال تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ). وفي هذه الآية ، أن الله (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) مع قوله : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) مع العلم بأحوال الصحابة رضي الله عنهم ، وأن شدة إنابتهم ، دليل على أن قولهم حجة ، خصوصا الخلفاء الراشدين ، رضي الله عنهم أجمعين.
[١٤] لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم ، ونهاهم عن التفرق ، أخبرهم أنهم ينبغي لهم أن لا يغتروا بما أنزل الله عليهم من الكتاب. فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل الله عليهم الكتاب الموجب للاجتماع ، ففعلوا ضد