مع الثقة به تعالى.
[٣٧] (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) والفرق بين الكبائر والفواحش ـ مع أن جميعهما كبائر ـ أن الفواحش هي : الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها ، كالزنا ونحوه ، والكبائر ، ما ليس كذلك ، هذا عند الاقتران. وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر يدخل فيه. (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، فصار الحلم لهم سجية ، وحسن الخلق لهم ، طبيعة. حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله ، أو فعاله ، كظموا ذلك الغضب ، فلم ينفذوه ، بل غفروه ، ولم يقابلوا المسيء إلّا بالإحسان والعفو والصفح. فترتب على هذا العفو والصفح ، من المصالح ، ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم ، شيء كثير ، كما قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥).
[٣٨] (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي : انقادوا لطاعته ، ولبّوا دعوته ، وصار قصدهم رضوانه ، وغايتهم الفوز بقربه. ومن الاستجابة لله ، إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة. فلذلك عطفها على ذلك ، من باب عطف العام على الخاص ، الدال على شرفه وفضله فقال : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : ظاهرها وباطنها ، فرضها ونفلها. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) من النفقات الواجبة ، كالزكاة ، والنفقة على الأقارب ونحوهم ، والمستحبة ، كالصدقات على عموم الخلق. (وَأَمْرُهُمْ) الديني والدنيوي (شُورى بَيْنَهُمْ) أي : لا يستبد أحد منهم برأيه ، في أمر من الأمور المشتركة بينهم ، وهذا لا يكون إلّا فرعا عن اجتماعهم ، وتوالفهم ، وتواددهم ، وتحاببهم. فمن كمال عقولهم ، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور ، التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها ، اجتمعوا لها ، وتشاوروا ، وبحثوا فيها ، حتى إذا تبينت لهم المصلحة ، انتهزوها وبادروها. وذلك كالرأي في الغزو ، والجهاد ، وتولية الموظفين لإمارة ، أو قضاء ، أو غيرهما. وكالبحث في المسائل الدينية عموما ، فإنها من الأمور المشتركة ، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله ، وهو داخل في هذه الآية.
[٣٩] (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أي : وصل إليهم من أعدائهم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) لقوتهم وعزتهم ، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار. فوصفهم بالإيمان ، والتوكل على الله ، واجتناب الكبائر والفواحش الذي تكفر به الصغائر ، والانقياد التام ، والاستجابة لربهم ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق في وجوه الإحسان ، والمشاورة في أمورهم ، والقوة والانتصار على أعدائهم. فهذه خصال الكمال قد جمعوها ، ويلزم من قيامها فيهم ، فعل ما هو دونها ، وانتفاء ضدها.
[٤٠] ذكر الله في هذه الآية ، مراتب العقوبات ، وأنها على ثلاث مراتب : عدل ، وفضل ، وظلم. فمرتبة العدل : جزاء السيئة بسيئة مثلها ، لا زيادة ولا نقص. فالنفس بالنفس ، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها ، والمال يضمن بمثله. ومرتبة الفضل : العفو والإصلاح عن المسيء ، ولهذا قال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) يجزيه أجرا عظيما ، وثوابا كثيرا. وشرط الله في العفو والإصلاح صلاحهما لحال الجاني ، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه ، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته ، فإنه في ـ هذه الحال ـ لا يكون مأمورا به. وفي جعل أجر العافي على الله ، ما يهيج على العفو ، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به. فكما يحب أن يعفو الله عنه ، فليعف عنهم ، وكما يحب أن يسامحه الله ، فليسامحهم ، فإن الجزاء من جنس العمل. وأما مرتبة الظلم : فقد ذكرها بقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الّذين يجنون على غيرهم ابتداء ، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته ، فالزيادة ظلم.
[٤١] (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي : انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي : لا حرج عليهم في ذلك. ودلّ قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) وقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه. وأما إرادة البغي على الغير ، وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء ، فهذا لا يجازى بمثله ، وإنّما يؤدب تأديبا ، يردعه عن قول ، أو فعل صدر منه.