على أفضل الأنام ، بلغة العرب الكرام ، لينذر به قوما ، عمتهم الجهالة ، وغلبت عليهم الشقاوة ، فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ، ويسيروا وراءه ، فيحصل لهم الخير الدنيوي ، والخير الأخروي ، ولهذا قال : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها) ، أي : في تلك الليلة الفاضلة الّتي نزل فيها القرآن (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ، أي : يفصل ويميز ، ويكتب كل أمر قدري وشرعي ، حكم الله به. وهذه الكتابة والفرقان ، الذي يكون في ليلة القدر ، إحدى الكتابات الّتي تكتب وتميز ، فتطابق الكتاب الأول ، الذي كتب الله به مقادير الخلائق ، وآجالهم ، وأرزاقهم ، وأعمالهم ، وأموالهم. ثمّ إن الله تعالى ، قد وكل ملائكة تكتب ما سيجري على العبد ، وهو في بطن أمه ، ثمّ وكلهم بعد خروجه إلى الدنيا ، وكّل به كراما كاتبين ، يكتبون ويحفظون عليه أعماله ، ثمّ إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ، ما يكون في السنة.
[٥] وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته ، وإتقان حفظه ، واعتنائه تعالى بخلقه (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ، أي : هذا الأمر الحكيم ، أمر صادر من عندنا.
[٦] (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) للرسل ومنزلين للكتب ، والرسل تبلغ أوامر المرسل وتخبر بأقداره ، (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ، أي : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب ، الّتي أفضلها القرآن ، رحمة من رب العباد بالعباد ، فما رحم الله عباده برحمة ، أجل من هدايتهم بالكتب والرسل. وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة ، فإنه من أجل ذلك وسببه. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، أي : يسمع جميع الأصوات ، ويعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة ، وقد علم تعالى ، ضرورة العباد إلى رسله وكتبه ، فرحمهم بذلك ، ومنّ عليهم ، فلله تعالى الحمد والمنة ، والإحسان.
[٧ ـ ٨] (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ، أي : خالق ذلك ومدبره ، والمتصرف فيه بما شاء. (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، أي : عالمين بذلك علما مفيدا لليقين ، فاعلموا أن الرب للمخلوقات ، هو إلهها الحقّ ، ولهذا قال : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، أي : لا معبود إلا وجهه ، (يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، أي : هو المتصرف وحده بالإحياء والإماتة ، وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، أي : رب الأولين والآخرين ، مربيهم بالنعم ، الدافع عنهم النقم.
[٩] فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته ، بما يوجب العلم التام ، ويدفع الشك ، أخبر أن الكافرين مع هذا البيان (فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ، أي : منغمرون في الشكوك والشبهات ، غافلون عما خلقوا له ، قد اشتغلوا باللعب الباطل ، الذي لا يجدي عليهم إلا الضرر.
[١٠ ـ ١١] (فَارْتَقِبْ) ، أي : انتظر فيهم العذاب ، فإنه قد قرب وآن أوانه ، (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ) ، أي : يعمهم ذلك الدخان ، ويقال لهم : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ). واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان ، فقيل : إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم ، حين تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة وأن الله توعدهم بعذاب يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر بهم ذلك اليوم. ويؤيد هذا المعنى ، أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأنّي بهم ، وترهيبهم بذلك اليوم وعذابه ، وتسلية الرسول والمؤمنين بالانتظار ، بمن آذاهم.
[١٣] ويؤيده أيضا ، أنه قال في هذه الآية : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) (١٣) وهذا يقال يوم