القيامة للكفار ، حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا ، فيقال : قد ذهب وقت الرجوع. وقيل : إن المراد بذلك ، ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من الإيمان ، واستكبروا على الحقّ ، فدعا عليهم النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : «اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف» ، فأرسل الله عليهم الجوع العظيم ، حتى أكلوا الميتات والعظام ، وصاروا يرون الذي بين السماء والأرض كهيئة الدخان وليس به ، وذلك من شدة الجوع. فيكون ـ على هذا ـ قوله : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ) أن ذلك بالنسبة إلى أبصارهم ، وما يشاهدون ، وليس بدخان حقيقة. ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وسألوه أن يدعو الله لهم ، أن يكشفه الله عنهم ، فكشفه الله عنهم ، وعلى هذا فيكون قوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (١٥) إخبار بأن الله سيصرفه عنهم ، وتوعّد لهم أن يعودوا إلى الاستكبار والتكذيب ، وإخبار بوقوعه فوقع ، وأن الله سيعاقبهم بالبطشة الكبرى ، قالوا : وهي وقعة «بدر» وفي هذا القول نظر ظاهر. وقيل : إن المراد بذلك ، أن ذلك من أشراط الساعة ، وأنه يكون في آخر الزمان ، دخان يأخذ بأنفاس الناس ، ويصيب المؤمنين معه كهيئة الدخان. والقول هو الأول. وفي الآية احتمال أن المراد بقوله : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) (١٤) أن هذا كله يوم القيامة.
[١٥] وأن قوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦) أن هذا ما وقع لقريش كما تقدم. وإذا نزلت هذه الآيات على هذين المعنيين ، لم تجد في اللفظ ، ما يمنع من ذلك. بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة ، وهذا الذي يظهر عندي ، ويترجح ، والله أعلم.
[١٧] لما ذكر تعالى تكذيب من كذب الرسول محمدا صلىاللهعليهوسلم ذكر أن لهم سلفا من المكذبين ، فذكر قصتهم مع موسى ، وما أحل الله بهم ليرتدع هؤلاء المكذبون عن ما هم عليه ، فقال : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ، أي : ابتليناهم واختبرناهم بإرسال رسولنا ، موسى بن عمران إليهم ، الرسول الكريم ، الذي فيه من الكرم ومكارم الأخلاق ما ليس في غيره.
[١٨] (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) ، أي : قال لفرعون وملئه : أدوا إليّ عباد الله ، يعني بهم : بني إسرائيل ، أي : أرسلوهم ، وأطلقوهم من عذابكم وسومكم إياهم سوء العذاب ، فإنهم عشيرتي ، وأفضل العالمين في زمانهم. وأنتم قد ظلمتموهم ، واستعبدتموهم بغير حق ، فأرسلوهم ليعبدوا ربهم ، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ، أي : رسول من رب العالمين ، أمين على ما أرسلني به ، لا أكتمكم منه شيئا ، ولا أزيد فيه ولا أنقص ، وهذا يوجب تمام الانقياد له.
[١٩] (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) بالاستكبار عن عبادته ، والعلو على عباد الله ، (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ، أي : بحجة بينة ظاهرة ، وهو ما أتى به من المعجزات الباهرات ، والأدلة القاهرات ، فكذبوه وهموا بقتله ، فلجأ إلى الله من شرهم ، فقال :
[٢٠] (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) (٢٠) ، أي : تقتلوني شر القتلات ، بالرجم بالحجارة.
[٢١] (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) (٢١) ، أي : لكم ثلاث مراتب : الإيمان بي ، وهو مقصودي منكم ، فإن لم تحصل منكم هذه المرتبة ، فاعتزلوني ، لا عليّ ولا لي ، فاكفوني شركم.
[٢٢] فلم تحصل منهم المرتبة الأولى ولا الثانية ، بل لم يزالوا متمردين عاتين على الله ، محاربين لنبيه موسى عليهالسلام ، غير ممكنين له من قومه بني إسرائيل ، (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) (٢٢) ، أي : قد أجرموا جرما ، يوجب تعجيل العقوبة. فأخبر عليهالسلام بحالهم ، وهذا دعاء بالحال ، الّتي هي أبلغ من المقال ، عن نفسه عليهالسلام (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، فأمره الله أن يسري بعباده ليلا ، وأخبره أن فرعون وقومه سيتبعونه.
[٢٤] (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) ، وذلك أنه لما سرى موسى ببني إسرائيل كما أمره الله ، ثمّ تبعهم فرعون ، أمر الله موسى أن يضرب البحر ، فضربه ، فصار اثنى عشر طريقا ، وصار الماء من بين تلك الطرق ، كالجبال العظيمة ، فسلكه موسى وقومه. فلما خرجوا منه ، أمره الله أن يتركه رهوا ، أي : بحاله ، ليسلكه فرعون وجنوده (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ).