الأنهار ، الّتي تسقي تلك البساتين الزاهرة ، والأشجار الناضرة المثمرة ، بكل زوج بهيج ، وكل فاكهة لذيذة. ولما ذكر أن الكافرين لا مولى لهم ، ذكر أنهم وكلوا إلى أنفسهم ، فلم يتصفوا بصفات المروءة ، ولا الصفات الإنسانية. بل نزلوا عنها دركات ، وصاروا كالأنعام ، الّتي لا عقل لها ولا فضل ، بل جلّ همهم ومقصدهم التمتع بلذات الدنيا وشهواتها ، فترى حركاتهم الظاهرة والباطنة ، دائرة حولها ، غير متعدية لها إلى ما فيه الخير والسعادة ، ولهذا كانت النار مثوى لهم ، أي : منزلا معدا ، لا يخرجون منها ، ولا يفتر عنهم من عذابها.
[١٣] أي : وكم من قرية من قرى المكذبين ، هي أشد قوة من قريتك ، في الأموال والأولاد والأعوان ، والأبنية والآلات. (أَهْلَكْناهُمْ) ، حين كذبوا رسلنا ، ولم تفد فيهم المواعظ ، فلا تجد لهم ناصرا ، ولم تغن عنهم قوتهم من عذاب الله شيئا. فكيف حال هؤلاء الضعفاء ، أهل قريتك ، إذا أخرجوك عن وطنك وكذبوك ، وعادوك وأنت أفضل المرسلين ، وخير الأولين والآخرين؟ أليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك والعقوبة ، لو لا أن الله تعالى بعث رسوله بالرحمة والتأني ، بكل كافر وجاحد؟
[١٤] أي : لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه ، علما وعملا ، قد علم الحقّ واتبعه ، ورجا ما وعده الله لأهل الحقّ ، كمن هو أعمى القلب ، قد رفض الحقّ وأضله ، واتبع هواه بغير هدى من الله ، ومع ذلك ، يرى أن ما هو عليه هو الحقّ ، فما أبعد الفرق بين الفريقين وما أعظم التفاوت بين الطائفتين ، أهل الحقّ وأهل الغيّ.
[١٥] (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ، أي : الّتي أعدها الله لعباده ، الّذين اتقوا سخطه ، واتبعوا رضوانه ، أنها من نعتها ، وصفتها الجميلة. (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) ، أي : غير متغير ، لا بوخم ولا بريح منتنة ، ولا بحرارة ، ولا بكدورة ، بل هو أعذب المياه وأصفاها ، وأطيبها ريحا ، وألذها شربا. (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بحموضة ولا غيرها ، (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) ، أي : يلتذ بها لذة عظيمة ، لا كخمر الدنيا الّتي يكره مذاقها وتصدع الرأس ، وتغول العقل. (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) من شمعه وسائر أوساخه. (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) من نخيل ، وعنب ، وتفاح ، ورمان ، وأترج ، وتين ، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا ، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم. ثمّ قال : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) يزول بها عنهم المرهوب ، فهؤلاء خير أم (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) الّتي اشتد حرها ، وتضاعف عذابها ، (وَسُقُوا) فيها (ماءً حَمِيماً) ، أي : حارا جدا ، (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين والعاملين والعملين.
[١٦] يقول تعالى : ومن المنافقين (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ما تقول استماعا ، لا عن قبول وانقياد ، بل معرضة قلوبهم عنه ، ولهذا قال : (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) مستفهمين عما قلت ، وما سمعوا ، مما لم يكن لهم فيه رغبة (ما ذا قالَ آنِفاً) ، أي : قريبا. وهذا في غاية الذم لهم ، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه أسماعهم ، ووعته قلوبهم ، وانقادت له جوارحهم ، ولكنهم بعكس هذه الحال ، ولهذا قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ،