أي : ختم عليها ، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم ، التي لا يهوون فيها إلا الباطل. ثم بين حال المهتدين ، فقال :
[١٧] (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) بالإيمان والانقياد ، واتباع ما يرضي الله (زادَهُمْ هُدىً) شكرا منه تعالى على ذلك ، (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ، أي : وفقهم للخير ، وحفظهم من الشر ، فذكر للمهتدين جزاءين : العلم النافع ، والعمل الصالح.
[١٨] أي : فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) ، أي : فجأة ، وهم لا يشعرون (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) ، أي : علاماتها الدالة على قربها. (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) ، أي : من أين لهم ، إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا ويستعتبوا؟ فقد فات ذلك ، وذهب وقت التذكر ، فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير. ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت ، فإن موت الإنسان قيام ساعته.
[١٩] العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته ، بمعنى ما طلب منه علمه ، وتمامه أن يعمل بمقتضاه. وهذا العلم الذي أمر الله به ـ وهو العلم بتوحيد الله ـ فرض عين على كل إنسان ، لا يسقط عن أحد ، كائنا من كان ، بل كلّ مضطر إلى ذلك. والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله ، أمور : أحدها بل أعظمها : ـ تدبر أسمائه وصفاته ، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله. فإنها توجب بذل الجهد في التأله له ، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال. الثاني : العلم بأنه تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية. الثالث : العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته ، والتأله له وحده لا شريك له. الرابع : ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به ، فإن هذا داع إلى العلم ، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها. الخامس : معرفة أوصاف الأوثان والأنداد الّتي عبدت مع الله ، واتخذت آلهة ، وأنها ناقصة من جميع الوجوه ، فقيرة بالذات ، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا ، ولا ينصرون من عبدهم ، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة ، من جلب خير أو دفع شر ، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله وبطلان إلهية ما سواه. السادس : اتفاق كتب الله على ذلك ، وتواطؤها عليه. السابع : أن خواص الخلق ، الّذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا ، ورأيا وصوابا ، وعلما ـ وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون ـ قد شهدوا لله بذلك. الثامن : ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية ، الّتي تدل على التوحيد أعظم دلالة ، تنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطف صنعته ، وبديع حكمته وغرائب خلقه. فهذه الطرق الّتي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله ، وأبداها في كتابه وأعادها ؛ عند تأمل العبد في بعضها ، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك ، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت ، وقامت أدلة للتوحيد من كل جانب ، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك ، في قلب العبد ، بحيث يكون كالجبال الرواسي ، لا تزلزله الشبه والخيالات ، ولا يزداد ـ على تكرر الباطل والشبه ـ إلا نموا وكمالا. هذا وإن نظرت إلى الدليل العظيم ، والأمر الكبير ـ وهو تدبر هذا القرآن العظيم ،