والتأمل في آياته ـ فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ، ما لا يحصل في غيره. وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ، أي : اطلب من الله المغفرة لذنبك ، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة ، والحسنات الماحية ، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم. (وَ) استغفر أيضا (لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) فإنهم ـ بسبب إيمانهم ـ كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة. ومن جملة حقوهم أن يدعي لهم ويستغفر لذنوبهم. وإذا كان مأمورا بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم ، فإن من لوازم ذلك النصح لهم ، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه ، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه ، ويأمرهم بما فيه الخير لهم ، وينهاهم عما فيه ضررهم ، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم ، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم ، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق ، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم. (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) أي : تصرفاتكم وحركاتكم ، وذهابكم ومجيئكم ، (وَمَثْواكُمْ) الذي به تستقرون ، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات ، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
[٢٠] يقول تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) استعجالا ومبادرة للأوامر الشاقة : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) ، أي : فيها الأمر بالقتال. (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) ، أي : ملزم العمل بها ، (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) ، الذي هو أشق شيء على النفوس ، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر ، ولهذا قال : (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) من كراهتهم لذلك ، وشدته عليهم. وهذا كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً).
[٢١] ثمّ ندبهم تعالى إلى ما هو الأليق بحالهم ، فقال : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ، أي : فأولى لهم أن يمتثلوا الأمر الحاضر المحتم عليهم ، ويجمعوا عليه هممهم ، ولا يطلبوا أن يشرع لهم ما هو شاق عليهم ، وليفرحوا بعافية الله تعالى وعفوه. (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) ، أي : جاءهم أمر جد ، وأمر حتم (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) في هذه الحال بالاستعانة به ، وبذل الجهد في امتثاله (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) من حالهم الأولى ، وذلك من وجوه : منها : إن العبد ناقص من كل وجه ، لا قدرة له إلا إن أعانه الله ، فلا يطلب زيادة على ما هو قائم بصدده. ومنها : أنه إذا تعلقت نفسه بالمستقبل ، ضعف عن العمل ، بوظيفة وقته الحاضر ، وبوظيفة المستقبل. أما الحال ، فلأن الهمة انتقلت عنه إلى غيره ، والعمل تبع للهمة ، وأما المستقبل ، فإنه لا يجيء حتى تفتر الهمة عن نشاطها فلا يعان عليه. ومنها : أن العبد المؤمل للآمال المستقبلة ، مع كسله عن عمل الوقت الحاضر ، شبيه بالمتألّي الذي يجزم بقدرته ، على ما يستقبل من أموره. فأحرى به أن يخذل ولا يقوم بما همّ به ، وتوعّد نفسه عليه ، فالذي ينبغي أن يجمع العبد همه وفكره ونشاطه على وقته الحاضر ، ويؤدي وظيفته بحسب قدرته. ثمّ كلما جاء وقت استقبله بنشاط ، وهمة عالية مجتمعة غير متفرقة ، مستعينا بربه في ذلك ، فهذا أحرى بالتوفيق والتسديد في جميع أموره.
[٢٢] ثمّ ذكر تعالى المتولّي عن طاعة ربه ، وأنه لا يتولى إلى خير ، بل إلى شر ، فقال : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ