تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢٢) ، أي : فهما أمران ، إما التزام لطاعة الله ، وامتثال لأوامره ، فثمّ الخير والرشد والفلاح ، وإما الإعراض عن ذلك ، والتولّي عن طاعة الله فما ثمّ إلا الفساد في الأرض ، بالعمل بالمعاصي ، وقطيعة الأرحام.
[٢٣] (أُولئِكَ الَّذِينَ) أفسدوا في الأرض ، وقطعوا أرحامهم (لَعَنَهُمُ اللهُ) بأن أبعدهم عن رحمته ، وقربوا من سخط الله. (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) ، أي : جعلهم لا يسمعون ما ينفعهم ، ولا يبصرونه. فلهم آذان ولكن لا تسمع سماع إذعان وقبول ، وإنّما تسمع سماعا تقوم بها حجة الله عليها ، ولهم أعين ، ولكن لا يبصرون بها العبر والآيات ، ولا يلتفتون بها إلى البراهين والبينات.
[٢٤] (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أي : فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله ، ويتأملونه حق التأمل ، فإنهم لو تدبروه ، لدلّهم على كل خير ، ولحذّرهم من كل شر ، ولملأ قلوبهم من الإيمان ، وأفئدتهم من الإيقان. ولأوصلهم إلى المطالب العالية ، والمواهب الغالية ، ولبيّن لهم الطريق الموصلة إلى الله ، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها ، والطريق الموصلة إلى العذاب ، وبأي شيء يحذر. ولعرّفهم بربهم ، وأسمائه وصفاته ، وإحسانه ، ولشوّقهم إلى الثواب الجزيل ، ورهّبهم من العقاب الوبيل. (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) ، أي : قد أغلق على ما فيها من الإعراض والغفلة والاعتراض ، وأقفلت ، فلا يدخلها خير أبدا؟ هذا هو الواقع.
[٢٥] يخبر تعالى عن حالة المرتدين عن الهدى والإيمان ، على أعقابهم ، إلى الضلال والكفران. ذلك لا عن دليل دلهم ، ولا برهان ، وإنّما هو تسويل من عدوهم الشيطان وتزيين لهم ، وإملاء منه لهم : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (١٢٠).
[٢٦] و (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) قد تبين لهم الهدى ، فزهدوا فيه ، ورفضوه ، و (قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) من المبرزين العداوة لله ولرسوله (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ، أي : الذي يوافق أهواءهم ، فلذلك عاقبهم الله بالضلال ، والإقامة على ما يوصلهم إلى الشقاء الأبدي ، والعذاب السرمدي. (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) فلذلك فضحهم ، وبينها لعباده المؤمنين ، لئلا يغتروا بها.
[٢٧] (فَكَيْفَ) ترى حالهم الشنيعة ، ورؤيتهم الفظيعة (إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) الموكلون بقبض أرواحهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) بالمقامع الشديدة؟
[٢٨] (ذلِكَ) العذاب الذي استحقوه ونالوه (ب) سبب أنهم (اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من كل كفر وفسوق وعصيان. (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) فلم يكن لهم رغبة فيما يقربهم إليه ، ولا يدنيهم منه ، (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ، أي : أبطلها وأذهبها ، وهذا بخلاف من اتبع ما يرضي الله وكره سخطه ؛ فإنه سيكفر عنه سيئاته ، ويضاعف له أجره وثوابه.
[٢٩] يقول تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) من شبهة أو شهوة بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله. (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ) ما في قلوبهم من (أَضْغانَهُمْ) وعداوتهم للإسلام وأهله؟ هذا ظن لا يليق بحكمة الله ، فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب ، وذلك بالابتلاء بالمحن الّتي من ثبت عليها ، ودام إيمانه فيها فهو المؤمن حقيقة. ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها ، وحين أتاه الامتحان ، جزع وضعف إيمانه ، وظهر ما في قلبه من الضغن ، وتبين نفاقه ، هذا مقتضى الحكمة الإلهية ، مع أنه تعالى قال :
[٣٠] (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) ، أي : بعلاماتهم الّتي هي كالرسم في وجوههم. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ، أي : لا بد أن يظهر ما في قلوبهم ، ويتبين بفلتات ألسنتهم. فإن الألسن مغارف القلوب ، يظهر فيها ما في القلوب من الخير والشر (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم عليها.
[٣١] ثمّ ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده ، وهو الجهاد في سبيل الله ، فقال :
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ، أي : نختبر إيمانكم وصبركم (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ، فمن امتثل أمر الله وجاهد في سبيل الله بنصر دينه وإعلاء كلمته فهو المؤمن حقا ، ومن تكاسل عن ذلك ، كان ذلك نقصا في إيمانه.
[٣٢] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها ، من الكفر بالله ، وصد الخلق عن سبيل الله الذي نصبه موصلا إليه. (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) ، أي : عاندوه ، وخالفوه عن