إنما تخلفوا لأنهم ظنوا بالله ظن السوء.
[١٢] فظنوا (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) ، أي : إنهم سيقتلون ويستأصلون ، ولم يزل هذا الظن يزيد في قلوبهم ، ويطمئنون إليه ، حتى استحكم ، وسبب ذلك أمران : أحدهما : أنهم كانوا (قَوْماً بُوراً) ، أي : هلكى ، لا خير فيهم ، فلو كان فيهم خير ، لم يكن هذا في قلوبهم.
[١٣] الثاني : ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد الله ، ونصر دينه ، وإعلاء كلمته ، ولهذا قال : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي : فإنه كافر مستحق للعقاب ، (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً).
[١٤] أي : هو تعالى المنفرد بملك السماوات والأرض ، يتصرف فيهما بما يشاء من الأحكام القدرية ، والأحكام الشرعية ، والأحكام الجزائية ، ولهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الأحكام الشرعية ، فقال : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ، وهو : من قام بما أمره الله به (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن تهاون بأمر الله ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، أي : وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة والرحمة. فلا يزال في جميع الأوقات يغفر للمذنبين ، ويتجاوز عن الخطائين ، ويتقبل توبة التائبين ، وينزل خيره المدرار ، آناء الليل والنهار.
[١٥] لما ذكر تعالى المخلفين وذمهم ، ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية ، أن الرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، إذا انطلقوا إلى غنائم لا قتال فيها ليأخذوها ، طلبوا منهم الصحبة والمشاركة ، ويقولون : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ) بذلك (أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) حيث حكم بعقوبتهم ، واختصاص الصحابة المؤمنين بتلك الغنائم ، شرعا وقدرا. (قُلْ) لهم (لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) إنكم محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم ، وبما تركتم القتال أول مرة. (فَسَيَقُولُونَ) ، مجيبين لهذا الكلام ، الذي منعوا به عن الخروج : (بَلْ تَحْسُدُونَنا) على الغنائم ، هذا منتهى علمهم في هذا الموضع. ولو فهموا رشدهم ، لعلموا أن حرمانهم بسبب عصيانهم ، وأن المعاصي لها عقوبات دنيوية ودينية ، ولهذا قال : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً).
[١٦] لما ذكر تعالى أن المخلفين من الأعراب ، يتخلفون عن الجهاد في سبيله ، ويعتذرون بغير عذر ، وأنهم يطلبون الخروج معهم ، إذا لم يكن شوكة ولا قتال ، بل لمجرد الغنيمة ، قال تعالى ممتحنا لهم : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ، أي : سيدعوكم الرسول ومن ناب منابه من الخلفاء الراشدين والأئمة. وهؤلاء القوم هم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم. (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ، أي : إما هذا وإما هذا. وهذا هو الأمر الواقع ، فإنهم في حال قتالهم ، ومقاتلتهم لأولئك الأقوام ، إذا كانت شدتهم وبأسهم معهم ، فإنهم في تلك الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية ، بل إما أن يدخلوا في الإسلام ، وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه. فلما أثخنهم المسلمون ، وضعفوا وذلّوا ، ذهب بأسهم ، فصاروا إما أن يسلموا ، وإما أن يبذلوا الجزية ، (فَإِنْ تُطِيعُوا) الداعي إلى قتال هؤلاء (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) ، وهو الأجر الذي رتبه الله ورسوله على الجهاد في سبيل الله. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله ، (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) ، ودلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين ، الداعين لجهاد أهل البأس من الناس ، وأنه تجب طاعتهم في ذلك.
[١٧] ثمّ ذكر الأعذار الّتي يعذر بها