«أخبرتكم أنه العام؟» قالوا : لا ، قال : «فإنكم ستأتونه وتطوفون به». قال الله تعالى هنا : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) ، أي : لا بد من وقوعها وصدقها ، ولا يقدح في ذلك تأويلها. (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) ، أي : في هذه الحال ، المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام ، وأدائكم للنسك ، وتكميله بالحلق والتقصير ، وعدم الخوف. (فَعَلِمَ) من المصالح والمنافع (ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) الدخول بتلك الصفة (فَتْحاً قَرِيباً). ولما كانت هذه الواقعة ، مما تشوشت به قلوب بعض المؤمنين ، وخفيت عليهم حكمتها ، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها ، وهكذا سائر أحكامه الشرعية ، فإنها كلها هدى ورحمة.
[٢٨] أخبر بحكم عام ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) الذي هو العلم النافع ، الذي يهدي من الضلالة ، ويبين طرق الخير والشر. (وَدِينِ الْحَقِ) ، أي : الدين الموصوف بالحق ، وهو : العدل ، والإحسان ، والرحمة. وهو : كل عمل مزكّ للقلوب ، مطهّر للنفوس ، مربّ للأخلاق ، معل للأقدار. (لِيُظْهِرَهُ) بما بعثه الله به (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) بالحجة والبرهان ، ويكون داعيا لإخضاعهم بالسيف والسنان.
[٢٩] يخبر تعالى عن نبيه (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) صلىاللهعليهوسلم (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، أنهم بأكمل الصفات ، وأجل الأحوال. وأنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ، أي : جادون ومجتهدون في قتالهم (١) ، وساعون في ذلك بغاية جهدهم ، فلم يرى الكفار منهم إلا الغلظة والشدة. فلذلك ذل أعداؤهم لهم ، وانكسروا ، وقهرهم المسلمون. (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، أي : متحابون ، متراحمون ، متعاطفون ، كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ، ما يحب لنفسه ، هذه معاملتهم مع الخلق. وأما معاملتهم مع الخالق فإنك (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) ، أي : وصفهم كثرة الصلاة ، الّتي أجل أركانها : الركوع والسجود. (يَبْتَغُونَ) بتلك العبادة (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) ، أي : هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم ، والوصول إلى ثوابه. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ، أي : قد أثرت العبادة ـ من كثرتها وحسنها ـ في وجوههم ، حتى استنارت. لما استنارت بالصلاة بواطنهم ، استنارت بالجلال ، ظواهرهم. (ذلِكَ) المذكور (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ، أي : هذا وصفهم ، الذي وصفهم الله به ، مذكور في التوراة هكذا. (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) بوصف آخر ، وأنهم في كمالهم وتعاونهم (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) ، أي : أخرج أفرخة فوازرته فراخه ، في الثبات والاستواء. (فَاسْتَغْلَظَ) ذلك الزرع ، أي : قوي وغلظ (فَاسْتَوى) ، أي : قوي واستقام (عَلى سُوقِهِ) ، جمع ساق ، أي : أصوله ، والمراد أنه قوي وقام على قضبانه. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) من كماله واستوائه ، وحسنه واعتداله. كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، هم كالزرع ، في نفعهم للخلق ، واحتياج الناس إليهم ، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع ، وسوقه. وكون الصغير والمتأخر إسلامه ، قد لحق الكبير السابق ، ووازره ، وعاونه على ما
__________________
(١) في المطبوعة (نصرتهم) خطأ ، والله أعلم.