لأنّ ذلك إنّما يكون من لوازم الوضع المترتّبة عليه بعد تحقّق الوضع وصدوره عن الواضع ، بل إنّما ينتزع ذلك عن انس الذهن بذلك أو عن كثرة الاستعمال بعد تحقّق الوضع ، لا أنّه عبارة عن نفس حقيقة علقة الوضعيّة ، وذلك من الظهور بحدّ لا يحتاج إلى أدنى تأمّل فيه.
ولقد كفاك شاهدا على ما ذكرناه النظر في الأعلام المنصوبة للعلامة على تعيين الفراسخ في الطرق البعيدة ، فإنّه إذا انتقلت بعد النصب إلى غير مكانها المعيّن الذي نصبت أوّلا فيه لدلالتها عليه من المقصود الخاصّ ، المارّ عليها بمناسبة انس الذهن إذا مرّ على المكان الجديد يتبادر إلى ذهنه المكان الأوّل ، مع أنّها قلعت عن مكانها الأوّل ، ونصبت في المكان الجديد بالهزل والعبث ، مع أنّ المارّ عليها يتبادر إلى ذهنه تلك العلامة الخاصّة والمقصود الخاصّ ، كما كان الأمر كذلك في المكان الأوّل الذي نصبت فيه لأجل الدلالة على تلك المسافة الخاصّة.
فالدلالة المتبادرة إلى ذهن المارّ في المكان الثاني غير مربوطة بالعلقة الوضعيّة الأوّليّة ، بل إنّما نشأت من انس الذهن وكثرة المرور بذلك المكان الأوّل وتخيّل أنّ نصبه في هذا المكان الجديد أيضا كان بذلك الاعتبار الأوّلي ، مع أنّ نصبه في المكان الجديد إنّما حدث بالهزل والعبث أو الانحراف في سير العابر والمارّ لأجل غرض السرقة ، من دون أن يكون مربوطا بالعلقة الوضعيّة في شيء بالقطع واليقين.
وإذا علمت ذلك كلّه فانقدح لك أنّ ما أفاده المحقّق صاحب الكفاية قدسسره يكون من لوازم علقة الوضعيّة لا عينها بعنوان الحقيقة.
فلنا أن نقول : إنّ ذات وحقيقة علقة الوضعيّة كما هو حقّها يتّضح بالتكلّم في الغرض والغاية التي تكون هي الباعثة والداعية للواضعين على وضع الألفاظ