كل منا في محل يناسب مرتبته ، ويلائم مقداره ومنزلته. ثم أخذ البابور في السير بلا مشقة ولا ضير ، قاصدا سمته ، ما ماد ، ولا مال ، ونحن بين جنتين عن يمين وشمال ، والأنهار جارية ، وأشجار البساتين متقاربة لا متجافية ، والأنهار قارة تسير بمسيرنا ، وتارة تعارضنا فنشقها على قناطير بطريقنا وتارة تلقانا الجبال الشاهقة ، فترى الطريق تشقها كأنها دكتها صاعقة. وكم في الطريق من المدن والمداشر. / فيها فابريكات الصنائع ، وعجائب المفاخر ، وامتدت السكة على هذا المنهاج الذي فيه غاية السرور والابتهاج من البداية إلى النهاية ، بما فيه من المصالح فوق الكفاية ، إذ ليس ترى بعد الجبال اليسيرة والقرى ، إلا جنات تجري خلالها الأنهار ، أو مزارع وصفوف البلنز من الأشجار ، عن اليمين واليسار ، تروق المبصرين ، وتسر الناظرين ، هذه بعض أوصاف (١) هذه الطريق على سبيل الاختصار ، وليس ذلك مني محضر اختصار ، لأننا أدركنا الليل ، وجر علينا من النوم كجر السيل ، فحصل لي من الملل وموحيات الكسل ما هو مغروز في طباعي ، ولا قدرة به لساعدي وباعي ، وكأن الشأن في مسيرنا ودأبا في طريقنا كلما وصل البابور إلى مدينة ، يفق يسيرا لقانون مشهور، فيوتي لنا بما هناك من الأطعمة والأشربة ، مستلذة غير مطربة ، فنتناول منها شيئا يسيرا ، ومنا من يتزود منها قدرا كثيرا، فكانت النعم تصحبنا في السفر كما كنا نجدها في الحضر(٢).
__________________
(١) وقد وصف هذه الطريق الفقيه محمد الصفار التطواني في رحلته السفارية «رحلة إلى باريس ١٨٤٥ ـ ١٨٤٦ م» صحبة السفير أشعاش إلى فرنسا سنة ١٨٤٥ م ، مخطوط خ. م. رقم ١١٣ بالرباط.
«... وقد رأينا في طرقنا هذه ... إنهم جادون في عمارة الأرض بالبناء والغرس وغيره ، لا يسلكون في ذلك طريق التساهل ، ولا يصحبهم فيه تغافل ولا تكاسل ، فلا ترى عندهم شيئا من الأرض ضائعا أصلا ، ولا ترى عندهم خرابا ولا أرضا مواتا ، حتى إن الأرض التي ترابها رديء ، ينقلون لها التراب الجيد من أرض أخرى ، ويعطون لكل نوع من الأرض ما يستحقه ...». رحلة الصفار ، درستها وحققتها سوزان ميلار جامعة هرفارد ، وعرب الدراسة خالد بن الصغير ، سنة ١٩٩٥ م ، منشورات كلية الآداب بالرباط ، رقم٢.
(٢) بياض صفحتين كاملتين / ٦٦ / و/ ٧٦ /. المخطوط.