ولا نريد أن نقول أنه كلب بالفعل ليقال إنه لو كان كلباً فعلاً لم نحتج إلى الاستصحاب ، بل حكمنا بنجاسته حسب الدليل الاجتهادي ، كما لا نريد أنه ملح كذلك ليقال : إن مع العلم بالاستحالة نعلم بطهارته فلا حاجة أيضاً إلى الأصل ، بل نريد أن نقول إنه كان كلباً سابقاً ولا منافاة بين العلم بالكلبية السابقة وبين الشك في الكلبية فعلاً. بل دعوى العلم بكونه كلباً سابقاً صحيحة حتى مع العلم بالاستحالة الفعلية نظير قوله عزّ من قائل ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ) (١) حيث أُطلقت النطفة على الإنسان المستحيل منها فكأنه قال للإنسان : إنك كنت نطفة مع العلم باستحالتها إنساناً. نعم الأثر إنما يترتب على كونه كلباً سابقاً فيما إذا شككنا في الاستحالة دون ما إذا علمنا أن المادة المشتركة قد خلعت الصورة الكلبية وتلبست بصورة نوعية اخرى ، هذا كله في الشبهات الموضوعية.
وأمّا الشبهات المفهومية فلا سبيل فيها إلى الاستصحاب ، لا في ذات الموضوع ولا في الموضوع بوصف كونه موضوعاً ولا في حكمه. مضافاً إلى ما نبهنا عليه غير مرّة من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهيّة.
أمّا عدم جريانه في ذات الموضوع الخارجي فلأنه وإن تعلق به اليقين إلاّ أنه ليس متعلِّقاً للشك بوجه للعلم بزوال وصف من أوصافه واتصافه بوصف جديد ، حيث لم تكن العذرة مثلاً محروقة فاحترقت ، ومع عدم تعلق الشك به لا يجري فيه الاستصحاب ، لتقوّمه باليقين السابق والشك اللاّحق ولا شك في الموضوع كما عرفت.
وأما عدم جريانه في الموضوع بوصف كونه موضوعاً ، فلأنه عبارة أُخرى عن استصحاب الحكم ، فان الموضوع بوصف كونه موضوعاً لا معنى له سوى ترتب الحكم عليه ، ويتّضح بعد سطر عدم جريان الاستصحاب في الحكم.
وأما عدم جريانه في نفس الحكم فلأنا وإن كنّا عالمين بترتب النجاسة على العذرة سابقاً وقبل إحراقها ونشك في بقائه ، إلاّ أن القضية المتيقنة والمشكوك فيها يعتبر إحراز اتحادهما ، ومع الشك في بقاء الموضوع لا مجال لإحراز الاتحاد ، لاحتمال أن
__________________
(١) القيامة ٧٥ : ٣٧.