وممّا ذكرنا يظهر فساد ما بالغ فيه بعض الأجلّة : من امتناع تعلّق الخطاب بمعناه الحقيقي وتوجّهه نحو المعدوم (١). فإنّ ما ذكره في وجه الامتناع ممّا لا مدخل لكون أداة الخطاب على وجه الحقيقة أو المجاز ، كما هو ظاهر على المتأمّل ، ويظهر الصدق بمراجعة كلامه في فصوله.
والذي يقضي بذلك أنّه لا حاجة إلى أمر آخر بعد التنزيل ـ ولو عند التغليب ـ من ملاحظة أمر أعمّ لئلا يلزم استعمال اللفظ في معنييه الحقيقيّ والمجازيّ ، بل ولا يعقل الأمر الأعمّ الشامل للمعدومين والموجودين في مدلول أداة الخطاب. والوجه في ذلك : أنّ الخطاب إمّا من الامور الحادثة بالأداة كما يراه البعض ، أو من الامور التي يكشف عنها الأداة ، سواء كانت الأداة علامة لها كما في علامة التأنيث والتذكير أو غيرها. وعلى التقادير فهي معان شخصية جزئيّة لا تتحمّل العموم ، كما هو ظاهر لمن تدبّر. نعم ، يصحّ ذلك في مدلول مدخول الأداة ، وأين ذلك من اعتبار العموم في مدلول الأداة؟
ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو بمجرّد الإمكان. وأمّا الوقوع فلا بدّ له من التماس دليل آخر ، ولم نجد ما يقضي به ، فإنّ ما تخيّله البعض من الأدلّة لا يقتضي إلاّ الاشتراك في الحكم ، وأمّا أنّ الخطابات القرآنيّة ممّا لوحظ فيها التنزيل المذكور واستعمل اللفظ في المخاطبة للحاضر ولمن هو منزّل منزلته فلم يدلّ عليه دليل.
ثم إنّه قد احتمل بعض المحقّقين في الخطابات القرآنيّة ـ مع القول باختصاصها بالحاضرين ـ شمولها للغائبين ، لقيام الكتّاب والمبلّغين واحدا بعد واحد مقام المتكلّم بها ، فلم يخاطب بها إلاّ الموجود فكأنّ الكتابة نداء مستمرّ من
__________________
(١) انظر الفصول : ١٨٠.