الشبهة في المتأخّرين فعكفوا عليها غفلة عن أوّل الأمر واصلة وحسن ظنّ بأهله ، أو لعين تلك المصلحة ، فخاضوا معهم في تلك الفضول وعملوا بالقواعد المحدثة والأُصول.
والصواب ما دلّ عليه الكتاب ونادت به أخبار الأطياب وجرى عليه قدماء الأصحاب الأنجاب ، من تحريم القول على الله بغير علم قطعيّ ولا دليل ضروريّ ، وأنّ الاجتهاد المعروف من الأخبار هو الرجوع إلى المعصوم ولو بواسطة أو وسائط ، واستنباط الحكم من محكمات الكتاب وأحاديث الأئمّة الأطياب إنْ كان له قدرة الاستنباط. وأمّا العوام ففرضهم الرجوع إلى رواة الحديث المأمور باتّباعهم أحياءً أو أمواتاً.
وهذا ليس تقليداً ، بل أخذاً عن المعصوم بالواسطة على حدّ قوله تعالى ( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ ) (١) فالقرى المباركة هم الأئمّة ، والقرى الظاهرة علماؤهم ، كما ورد به تفسيرهم عن الباقر والسجّاد والقائم عليهمالسلام (٢).
والظاهر أنّ هذا معنى ما استفاض من أنّ « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة » (٣) ، وإلّا فلا معنى له على قولهم ؛ لأنّ الكلّيّة صريحة في العينيّة. والحمل على الاستحباب خلاف ظاهر معنى الفريضة ، مع دلالة الأخبار على الوجوب العيني وإنْ كان منه ما يجب طلبه بعد التكليف وجوباً مضيّقاً كالمعارف الخمس وأحكام الطهارة والصلاة ، ومنه ما لا يجب إلّا عند الحاجة كمسائل الزكاة والحجّ والجهاد والمعاملات. وهذا لا يلزم منه حرجٌ ؛ لأنّا لا نريد الاجتهاد المصطلح عليه ، ولعلّ مراد الحلبيّين بوجوب الاجتهاد هذا.
ولهذا قيل : إنّ أصحاب القول المذكور على طريقة الأخباريّين من الرجوع إلى
__________________
(١) سبأ : ١٨.
(٢) كمال الدين وتمام النعمة ٢ : ٤٨٣ / ٢ ، الاحتجاج ٢ : ١٤٠ / ١٧٨ ، و: ١٨٤ / ٢٠٨.
(٣) الكافي ١ : ٣٠ / ١ ، وليس فيه : « ومسلمة ».