ولكن هذا الأصل بالنسبة إلى العمل بما وراء العلم الّذي منه التقليد قد انقلب إلى أصل ثانوي وهو الحرمة المستفادة من عمومات المنع عن العمل بما وراء العلم كتابا وسنّة ، وظاهر أنّ مقتضى هذا الأصل هو الحرمة في كلّ تقليد عدا ما أخرجه الدليل الناهض مخصّصا لتلك العمومات ، وعليه فالمحتاج إلى الدليل حينئذ إنّما هو الجواز لا الحرمة ، والقدر المسلّم ممّا خرج بالدليل بهذا المعنى إنّما هو تقليد العامّي الصرف والعالم الغير البالغ رتبة الاجتهاد للإجماع والضرورة ، وأمّا ما عداهما كتقليد العالم البالغ رتبة الاجتهاد فلا إجماع ولا ضرورة قضت بخروجه فيبقى تحت الأصل ، ومقتضاه التحريم الشرعي وهو ينفي الجواز الثابت بالأصل الأوّلي لورود الأصل الثانوي عليه ، وعليه فيكون المراد بأصل العدم في الدليل المتقدّم أعني قولهم : « الجواز حكم شرعيّ فلا بدّ له من دليل ، والأصل عدمه » أصالة عدم ما ينهض مخصّصا للعمومات المحرّمة للتقليد المؤسّسة للأصل الثانوي ، فالمراد من الدليل هو الدليل المخرج عن تلك العمومات ، وهذا هو السرّ في افتقار الجواز إلى الدليل.
وأمّا التحريم فيكفي فيه العمومات ولا يحتاج إلى دليل آخر.
وبذلك يندفع المعارضة الّتي قرّرناها في منع الأصل المتمسّك به في نفي التقليد.
وليس لأحد أن يعارضه : بأنّ التعويل على الاجتهاد باتّباع مؤدّياته أيضا عمل بما وراء العلم ، إذ المفروض أنّها في الغالب ظنّية ولم يقم دليل علمي على التعويل عليها ليكون تعويلا على العلم الحاصل من هذا الدليل ، إذ الدليل العلمي هنا إمّا الإجماع ولا إجماع لمكان الخلاف ، أو الضرورة بمعنى الاضطرار وهي مبنيّة على نفي التقليد بالإجماع وفرض الخلاف هنا ينفي الإجماع أيضا فيندرج في الأصل المستفاد من العمومات المانعة عن العمل بما وراء العلم ، وهذا الأصل أعمّ موردا من الأصل المستفاد من عمومات نفي التقليد كما لا يخفى.
ولا مخرج عنه هنا ، فالأصل عدم ما يصلح لتخصيصها.
لما نبّهنا عليه من أنّ جواز الاجتهاد في الجملة إجماعيّ والخلاف إنّما هو في كون هذا الجواز هل هو على جهة التعيين أو على جهة التخيير؟ وتعيين التقليد على وجه يستلزم منع الاجتهاد ممّا لا قائل به.
فالمفروض مخرج عن الأصل المذكور بالإجماع ، بخلاف التقليد المتنازع فيه الّذي لا إجماع على خروجه عن الأصل.