آخر غير ما هو محلّ المقال من بيان وجه الحاجة إلى علم الرجال وإثبات توقّف الاجتهاد على ملاحظة أسانيد الروايات ومعرفة أحوال رجالها ، فالأولى التعريض لذكر هذه القرائن أيضا وإن استلزم تكرارا في أصل ذكرها ، ثمّ الكلام عليها على وجه يتعلّق بالمقام ويثبت معه المرام.
فأوّل تلك القرائن ـ حسبما حكاها الوحيد البهبهاني في رسالة الاجتهاد والأخبار ـ أنّه كثيرا مّا نقطع بالقرائن الحاليّة والمقاليّة بأنّ الراوي كان ثقة في الرواية لم يرض بالافتراء ولا برواية ما لم يكن بيّنا واضحا وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه ، وهذا النوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا.
وفيه : أنّه إن اريد بتلك القرائن الموجبة للقطع بوثاقة الراوي نظائر الامور المتقدّم إليها الإشارة في صدر المسألة أو ما يعمّها وما يوجد في بعض المتون من ترديد الراوي بين اللفظين المحتملين في نظره ، أو قوله في موضع الشكّ في لفظ الإمام عليهالسلام : « أظنّ أنّه قال كذا » أو « لا أحسبه إلاّ قال كذا » أو ما أشبه ذلك أو ما يعمّها وما يتّفق في بعض الأسانيد من قولهم : « فلان عن فلان الثقة » أو « فلان الجليل » أو « الشيخ الجليل فلان » ونحوه.
فالقول بلزوم مراعاتها اعتراف بالحاجة إلى مراعاة ما يوجب معرفة الرجال ولا يكون إلاّ للحاجة إلى تلك المعرفة ، بناء على ما بيّنّاه من أنّ معرفة الرجال المحتاج إليها ليست عبارة عن خصوص ما يحصل بمراجعة الكتب الرجاليّة ، فرجع شبهة الخصم في نفي الحاجة إلى نفي لزوم مراجعة الكتب الرجاليّة لا نفي الحاجة إلى معرفة أحوال الرجال رأسا ، فيعود الخلاف حينئذ لفظيّا.
ومع هذا نقول إلزاما له : إنّ مراعاة هذه القرائن على مقتضى كلامه إنّما هي للحاجة إلى معرفة حال الراوي في العمل بروايته ، فلو فرض حينئذ انتفاء هذه القرائن بالمرّة بحيث لم يكن إلى معرفة حال الراوي طريق إلاّ مراجعة الكتب أو ندرة وجودها بحيث لم يكن معه بدّ من مراجعتها أيضا ، فهل يوجب تلك المراجعة أو ينكرها؟ فإن قال بالأوّل كان كرّا على ما فرّ منه ، إذ الّذي يوجبها إنّما يوجبها لأحد هذين الفرضين ، وإن قال بالثاني فقد أتى بما يناقض مقتضى كلامه ، مع أنّ أمثال هذه القرائن لا توجد إلاّ في طائفة قليلة من أحاديثنا بحيث لا تشفي العليل ولا تروي الغليل ، فلا مناص عن مراجعة الكتب ومزاولة ما تضمّنتها من كلمات أهل هذه الصناعة ، مع أنّ كون هذه القرائن صالحة لإفادة القطع بوثاقة الراوي