كلّ منهما الواقع ، إلاّ أنّ فتوى الأعلم لزيادة بصيرته بمدارك الأحكام ومعارضاتها وأقوائيّة ملكة استنباطه أغلب مصادفة له فيكون أقرب إليه من فتوى غير الأعلم ، وجعل هذه الأقربيّة مرجّحة حينئذ لا ينافي كون العمل بالفتوى من باب التعبّد ، لأنّ معناه أنّ المقلّد يجب عليه الأخذ بها وإن لم تفد له الظنّ بالواقع ، بل وإن حصل له الظنّ بواسطة أمارة بخلافها ، غاية ما هنالك لزوم حمل كون الظنّ الحاصل من قول الأعلم أقوى ، على إرادة كون قوله أقوى سببا لإفادة الظنّ ، وإن كان لا يخلو عن تكلّف.
السادس : قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) فإنّه تنفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم ، والمفضول لنقصان علمه يصدق عليه أنّه لا يعلم ، والأعلم باعتبار زيادة علمه يصدق عليه أنّه يعلم ، فلو جاز تقليد غير الأعلم كما يجوز تقليد الأعلم لزم المساواة بينهما ، واللازم باطل بنصّ الآية.
وفيه أيضا ضعف ، أمّا أوّلا : فلأنّه ليس في نفي المساواة عموم لفظي أو عقلي يوجب تناول الآية لمثل مقام الإفتاء والقضاء وغيرهما من المناصب الشرعيّة ، خصوصا مع ملاحظة ما في كلام بعض أهل التفسير من تفسيرها بأنّه هل يستوي الّذين يعلمون نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم والّذين لا يعلمون نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأمّا ثانيا : فلمنع كون مناط الأعلميّة وعدمها العلم بمعنى الإدراك الفعلي وعدمه ، بل مناطها على ما سنحقّقه أقوائيّة ملكة الاستنباط وعدمها.
ولا ريب أنّ الاختلاف بين المجتهدين في زيادة الإدراك الفعلي ونقصانه لا ينافي التساوي بينهما في الملكة ، فلو أخذ بظاهر الآية لزم الترجيح بمجرّد زيادة العلم مع التساوي في الملكة وهو غير جيّد على ما سنذكره ، إلاّ أن يخصّص بصورة زيادة العلم إذا صادفت أقوائيّة الملكة ثمّ يتمّم في صورة التساوي في العلم والاختلاف في الملكة بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، هذا مع تطرّق المنع إلى صدق « من لا يعلم » على غير الأعلم ، لظهور « لا يعلمون » في السلب الكلّي المناقض للإيجاب الجزئي ، ولصدق « يعلمون » مع الإيجاب الجزئي.
والمفروض أنّ غير الأعلم يعلم في الجملة ، فهو مندرج في إطلاق « يعلمون » لا في قوله : « لا يعلمون » ، ولذا قد يستدلّ بالآية على مساواته للأعلم المقتضية لجواز الرجوع إليه مع وجود الأعلم كما ستعرفه.