أوّلا فمسلّم ولا مانع منه ، ضرورة أنّ أبديّة الأحكام لا تقضي بعدم اختلافها بحسب اختلاف الأحوال ، كيف واختلاف صلاة الحاضر والمسافر والصحيح والمريض والقادر والعاجز من الضروريّات ولا منافاة فيه لأبديّة الأحكام الثابتة بالضرورة أصلا ، فكذا الحال في المقام.
والثالث : أنّه إنّ أراد بكون كلّ حكم اجتهادي قابلا للتغيّر أنّ ما يحكم به المجتهدون من الأحكام قابلا للتغيّر فهو ممنوع بل فاسد ، لأنّ ما يدركه من الأحكام غير قابل للتغيّر عمّا هو عليه ، فإنّه إن كان ما أدركه مطابقا للواقع لم يكن قابلا للتغيير عمّا هو عليه وإن أدرك بعد ذلك خلافه. غاية الأمر أن يكون معذورا في خطائه فيه ثانيا ، وإن كان غير مطابق للواقع فكذلك أيضا ، غاية الأمر أن يكون معذورا في خطائه فيه أوّلا.
وإن أراد به أنّ نفس حكمه وإدراكه قابل للتغيّر ، بأن يدرك ثانيا خلاف ما أدركه أوّلا فيزول إدراكه الأوّل ويخلفه الثاني فممنوع ، ولا يلزم من ذلك أن يكون إدراكه مطلقا منافيا للشريعة الأبديّة كما هو القضيّة الكلّية المدّعاة ، إذ قبول الإدراك للتغيّر إنّما يقضي بعدم الملازمة بينه وبين إصابة الواقع ، لأنّه لا يكون مصيبا للواقع مطلقا ، فأقصى ما يلزم من الدليل المذكور أنّ ظنون المجتهدين قد تصيب الواقع وقد تخطئه ، وهذا ممّا اتّفق عليه أصحابنا.
واتّفقوا مع ذلك على وجوب العمل بظنّه ، إذ لا منافاة بين عدم إصابة الظنّ للواقع ووجوب العمل بمؤدّاه ، كما هو الحال في سائر الطرق المقرّرة في الشريعة (١).
ومنها : أنّ فتح سبيل العلم على المكلّفين في تكليفهم بالعلم بالأحكام من اللطف ، فيجب أن يكون حاصلا لوجوب اللطف على الله تعالى.
أمّا الصغرى : فلما فيه من تقريب العبد إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية ما ليس في الظنّ ، لوضوح أنّ اليقين أدعى إلى تحصيل الامتثال من الظنّ.
وأمّا الكبرى : فظاهرة (٢).
وهذا الدليل كما ترى غير مفهوم المراد ، فإنّ الامور المدركة بالوجدان لابدّ وأن تدرك بالوجدان فلا ينفع في ثبوتها البرهان إذا لم يساعد عليها الوجدان ، فكيف إذا أكذبها الوجدان ،
__________________
(١) هداية المسترشدين ٣ : (٦٩٢ ـ ٦٩٥).
(٢) هداية المسترشدين ٣ : (٦٩٢ ـ ٦٩٥).