الاخرى فإنّه ربّما يتبع الدواعي النفسانيّة من الميل والبغض وغيرهما ممّا لا تنضبط ، والدواعي من الارتشاء ولذا يسأل الحاكم ويؤاخذ وربّما يتّهم ، فالتسوية ممّا ينقطع به الخصومة وينسدّ به باب المنازعة ويتحفّظ به الحاكم عن التهمة ، فالحكمة الإلهيّة تقتضي جعله التنصيف والعمل بكلّ في البعض ميزانا للعمل بالبيّنات في موضوع التعارض.
ثمّ إنّ هذا كلّه في منع أولويّة الجمع ، ولمّا كان ذلك بمجرّده لا يلازم أولويّة الطرح اللازم من التخيير فينبغي التكلّم في ذلك.
وليعلم أوّلا : أنّ الدليلين الظنّيين ـ كما هو موضوع المسألة ـ ليسا كالقطعيّين ، فإنّ قطعيّة سند الدليل تأبى عن طرحه ، فإن كان دلالتاهما ظنّية وانحصر طريق الجمع بينهما في تأويل بعيد فيهما وتنزيل كلّ منهما على احتمال لا يساعد عليه فهم العرف ولم يشهد له شاهد خارجي فالحكم ما أشرنا إليه سابقا من أنّه لا مناص فيهما من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، وأمّا مع نصوصيّة دلالتيهما فإمّا أن يكون المورد ممّا يجوز فيه النسخ ولا يجري فيه التقيّة كما لو كانا من الكتاب أو من الأخبار النبويّة فلا مناص فيهما من التزام النسخ بجعل أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، ولابدّ في تميز الناسخ من المنسوخ معرفة التاريخ ، أو يكون ممّا يجوز فيه التقيّة ولا يجري فيه النسخ كما لو كانا من الأخبار الإماميّة فلا مناص من التزام جهة التقيّة في صدورهما ، وإن لم يقصد بها العمل ولا إظهار الموافقة في المذهب بل مجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة على ما ورد في الروايات مع إشكال فيه يأتي وجهه في بحث المرجّحات.
بخلاف ما لو كانا ظنّيين سندا فإنّ احتمال النسخ لا يجري فيهما وإن كانا من الأخبار النبويّة ، لعدم جواز النسخ بخبر الواحد ، واحتمال التقيّة يندفع بالأصل ، وحينئذ فإذا لم يكن الجمع بالمعنى المتقدّم أولى فقد يقال بأولويّة الطرح تمسّكا ببناء العرف ، فإنّ أوّل ما يلاحظه العرف عند سماع الخبر إنّما هو الدلالة والمضمون ، فإذا عارضه مثله كما في « أكرم زيدا » و « لا تكرم زيدا » يبقى متردّدا ومتحيّرا ويشاهد نفسه عاجزا من العمل بهما معا لانتقاله إلى عدم إمكانه فيختار أحدهما للعمل ويطرح الآخر من جهة تفطّنه بكون أدلّة الحجّية والاعتبار مقيّدة بالإمكان ولا ممكن إلاّ هذا ، وذلك عندنا ليس بسديد ، لأنّه لو لم ندّع كون بناء العرف في نحو ذلك من جهة التحيّر الناشئ من التعارض على التوقّف والعمل بالأصل إلى أن يتبيّن المخرج منه فلا أقلّ من منع كون بنائهم على التخيير.