لا يقال : ما ذكرت من ضابط الفرق بين مجرى أصل الاشتغال ومجرى أصل البراءة ليس بمطّرد أو ليس بتامّ ، بل لا بدّ من تقييد الشكّ في المكلّف [ به ] الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف في ضابط جريان أصل الاشتغال لا غير بعدم دوران المقام بين تقديرين يترتّب العقاب على الترك في أحدهما ولا يترتّب عليه في الآخر وإلاّ كان من مجرى أصل البراءة الّذي ضابطه الكلّي نفي العقاب المحتمل ، وقضيّة ذلك جريان أصل البراءة فيما نحن فيه لرجوع الشكّ في التعيين والتخيير إلى احتمال ترتّب العقاب على ترك الواحد المعيّن.
ولا ريب أنّ الأصل براءة الذمّة عن ذلك العقاب المحتمل ، بل البراءة عن الضيق الّذي يستلزمه التعيين ممّا لا معنى له إلاّ هذا ، ويلزمه ثبوت كون الواجب كلّ واحد على البدل.
لأنّا نقول : إنّ إعمال أصل البراءة بنحو هذا التكلّف يندفع بأنّ أصل البراءة إنّما يجري ويصحّ الاستناد إليه حيث لم يكن هناك أصل موضوعي وارد عليه رافع لموضوعه وهو الشكّ ، والمفروض وجود الأصل الموضوعي فيما نحن وهو أصالة عدم تعلّق وصف الوجوب بما احتمل كونه أحد فردي الواجب التخييري بعد تيقّن تعلّقه بما احتمل كونه معيّنا ، ومرجعه إلى نفي تعلّق جنس الوجوب لا نفي الوجوب بقيد التعيين ولا هو بقيد التخيير.
فإن قلت : إجراء أصل العدم لنفي تعلّق الوجوب بما احتمل كونه أحد فردي الواجب التخييري إنّما يتمّ في مسألة الظهر والجمعة ونظائرها دون ما نحن فيه وهو دوران الأمر بين تعيين ذي المزيّة من الأمارتين المتعارضتين والتخيير بينها وبين الأمارة الخالية عن المزيّة ، لأنّ وجوب العمل المتولّد عن الحجّية الذاتيّة ثابت في كلا المتعارضين على ما تقدّم من شمول أدلّة الحجّية لهما معا ، فلا يمكن نفيه بأصل العدم.
قلت : لا كلام لنا في الوجوب المتولّد عن الحجّية الذاتيّة لكونها مشترك الثبوت بين المتعارضين ، بل الكلام في الوجوب الثانوي المجعول من باب الحكم الظاهري للمتحيّر عند الابتلاء بالمتعارضين ، وكما أنّ الشارع جعل له حكما ظاهريّا عند تكافؤ المتعارضين وتساويهما من جهة المرجّحات وهو وجوب العمل بكلّ منهما على البدل ، فكذلك جعل له عند الابتلاء بذي المزيّة والخالي عن المزيّة حكما يعبّر عنه بالحجّية الفعليّة ، ولا يدرى أنّه وجوب تعيين أو وجوب تخيير ، وهذا الوجوب المعلوم كونه مجعولا بالإجمال ممّا تيقّن تعلّقه بذي المزيّة ويشكّ في تعلّقه بالخالي عنها والأصل عدمه ، وهذا لا ينافي الحجّية الذاتيّة الّتي يتولّد منها الوجوب الشأني.