تعبيراً دقيقاً عن الموجات النفسية التي كانت تندفع في نفس الشاعر وهو في موقفه الضيّق الحرج ، فهو قبل كلّ شيء مصمم على أنْ يحتفظ بحريته ولو أدّى هذا إلى قتله ، وهو يعلن في صراحة وصدق أنّ الموت شيء منكر ، ولا يقول هذا كما يقوله غيره ممّن يغالطون أنفسهم أنّ الموت شيء محبّب إلى نفسه ، وإنّما يعبّر عن نفسيته تعبيراً صادقاً ، فالموت شيء لا يحبّه ، ولكنّه لا يفرّ منه ما دام قد صمم على الاحتفاظ بحريته.
ثمّ يحاول أن يهدّئ مِنْ روعه ، ويجعل هذه الموجة العالية الرهيبة تنحسر عن نفسه دون أنْ يجذبها في تيارات مِن الهلع والفزع ، فيحدّث عن نفسه بأنّ الدنيا متقلبة وكلّ امرئ فيها لا بد أنْ يلاقي ما يسوؤه ، وهو يعرض هذا الحديث النفسي في صورة فنيّة رائعة.
وأضاف يقول : إنّه حريص على الحياة ، ولكنّه حريص على الحرية بجعله متردّداً ؛ لأنّه يخشى ، بل يخاف أنْ يكذّب عليه أعداؤه ، أو يخدعوه فيقتلوه دون محاولة منه لتنفيذ عهده بأنْ يموت في سبيل حريته ، أو يأسروه فيفقد حريته التي يحرص عليها حرصه على الحياة.
أرأيت كيف استطاع أنْ يصوّر موقفه الضيّق الحرج هذا التصوير الفتيّ الرائع ، الذي يشمل روعته مِنْ تعبيره عن نفسيته تعبيراً صادقاً لا رياء فيه ولا تضليل؟
إنّ هذا هو السرّ الذي يجعل هذه الشطور القليلة تؤثّر في نفوسنا تأثيراً يجعلنا نشعر بما كان يعانيه قائلها مِنْ صراع داخلي هائل لا يعدله إلاّ صراعه الخارجي مع أعدائه (١).
__________________
(١) حياة الشعر في الكوفة / ٣٧١ ـ ٣٧٢.