وإنّما هو شأن خالق القوى والقدر (١) ، وأنّ (٢) هذا الفنّ قد نضب اليوم ماؤه فصار جدالا بلا أثر ، وذهب رواؤه فعاد خلافا بلا ثمر (٣) حتّى طارت (٤) بقية آثار السّلف أدراج الرّياح وسالت (٥) بأعناق مطايا تلك الأحاديث البطاح
______________________________________________________
(١) «القوى» جمع القوّة و «القدر» جمع القدرة ، وعطف «القدر» على «القوى» من قبيل عطف الخاصّ على العام ، لصدق القوى على قوّة السّمع والبصر وغيرهما من القوى الخمسة الظّاهرة والباطنة وحاصل المعنى ـ من قوله : «علما منّي» إلى هنا على ما في الدّسوقي ـ لعلمي بأنّ الاختصار الّذي طلبوه إذا وقع الإجابة منّي لا يسلم ، ولا يخلو من طعن النّاس فيه ، ولا يخلص من اعتراضهم عليه ، لأنّ الإتيان بالأمر الّذي تستحسنه كلّ الطّباع وتقبله كلّ الأسماع أمر لا تسعه قدرتي بل هو شأن خالق كلّ قوّة وقدرة ، ولذا أعرضت عن إيفاء مطلوبكم لا لبخلي.
(٢) عطف على قوله : «بأنّ مستحسن» و «نضب» بمعنى غار وغاب وغور ماء هذا الفنّ كناية عن ذهاب هذا العلم. والمعنى : ولعلمي بأنّ هذا الفنّ قد ذهب ، فصار هذا الفنّ موردا للجدال ، فلا أثر ولا فائدة في تحمّل التّعب بالتّأليف والاختصار.
(٣) «ذهب رواؤه» أي ذهب منظره الحسن «فعاد خلافا بلا أثر» أي فصار هذا الفنّ محلّ خلاف فلا فائدة فيه.
(٤) قوله : «طارت» من الطّيران بمعنى الذّهاب و «أدراج» جمع درج مثل سبب وأسباب ، بمعنى الطّريق و «أدراج الرّياح» كناية عن اضمحلال بقية آثار السّلف والمعنى حتّى ذهبت بقية آثار السّلف أي فوائدهم في طريق الرّياح ويلزم من ذلك عدم وجودها بالمرّة لأنّ حال الرّيح أن تزيل ما مرّت به في طريقها.
(٥) «سالت» بمعنى سارت وجرت وقوله : «البطاح» فاعل له. و «الأعناق» جمع العنق و «المطايا» جمع المطيّة وهي الإبل ونحوه إلّا أنّ المراد منها هنا علماء هذا الفنّ ، والمراد من «الأحاديث» أسرار هذا الفنّ ثمّ «البطاح» جمع الأبطح على غير قياس والقياس أباطيح. والأبطح هو المحل المتّسع الّذي فيه دقاق الحصى والمراد منه في المقام محلّ العلماء كالمدارس مثلا ، ثمّ إسناد السّيل إلى الأبطح مجازيّ ، لأنّ الفاعل الحقيقي هو العلماء ، عدل إلى المجاز لإرادة أنّ العلماء ذهبوا مع المحلّ ، ثمّ المصنف شبّه العلماء بالمطايا في تحمّل الأثقال.